البرنامج العملي لاستغلال الاجازة
الحمد لله، وأصلي وأسلم على رسول الله، وبعد:
فبمناسبة بدء الإجازة الصيفية، وسعة الوقت لدى الكثيرين؛ أحببت أن أكتب برامج ميسرة وجادة لمن حرص على استغلال وقته، وضَنَّ بساعات يومه وليلته، وهم كثر بحمد الله إلا أن غياب التوجيه والنصح العملي أدى إلى تبديد الأوقات، وإضاعة الساعات تلو الساعات، وهذه البرامج هي اجتهادات شخصية لا أزعم فيها الكمال ولا ما يدانيه، والمجال مفتوح لمن أحب أن يفيد إخوانه، وينصح لأئمة المسلمين وعامتهم.
وهذه البرامج روعي فيها التنويع إلى حد ما ليتلاءم مع الرغبات المختلفة؛ فهناك برنامج لراغب حفظ كتاب الله عز وجل، وبرنامج لمن رغب في حفظ الصحيحين، وبرنامج لراغب حفظ المتون العلمية، وبرنامج للداعية، وبرنامج لمحبي الرحلات الدعوية... وهكذا.
ثم إن تلكم البرامج برامج مكثفة، وتتطلب جدية وعزيمة راسخة، وهي بالطبع لا تصلح لمحبـي الخمول والكسل، والراحة والاسترخاء، وليت من عجز عن الانخراط في هذه البرامج أن لا يثبط غيره أو يفتر عزيمة إخوانه؛ حتى لا يكون مِغلاق خير لا قدر الله، ولا ينس الجميع أن الدال على الخير كفاعله، والله ولي التوفيق.
أولًا: برنامج حفظ القرآن الكريم:
هذا البرنامج يُمكّن لطالب العلم من حفظ القرآن كاملًا خلال الإجازة الصيفية (ثلاثة أشهر) ويكون من خلال الخطوات العملية التالية:
1- حفظ ثلاثة أرباع الجزء (6 أثمان) كل يوم ومراجعته في اليوم الثاني، ثم حفظ نفس المقدار في اليوم الثالث ومراجعته في اليوم الرابع وهكذا.
2- يبدأ الحفظ عقب صلاة الفجر وقراءة الأذكار، ويجزّئ نصف الجزء المراد حفظه إلى أوجه متساوية، ثم يشرع الطالب في حفظ الوجه الأول، فإذا أتمه أعاد قراءته عدة مرات حتى يتقنه، ثم ينتقل إلى الوجه الثالث حتى يفرغ من نصف الجزء، فإذا فرغ منه أعاد قراءته على نفسه أو على شخص غيره أكثر من مرة, مع التزام قراءته في صلوات النافلة والتهجد, ويظل مع هذا الحزب القرآني طيلة يومه وغده طالبًا من المولى تعالى أن يخلص له نيته, ويثبت له حفظه، ويكثر من الدعاء والتضرع حتى يسهل أمره, ويصل إلى بغيته.
3- لا يفضل لراغب الحفظ إشغال نفسه بغير القرآن، أو حضور الدورات العلمية أو نحوها مع أهميتها وفائدتها، بل يجمع نفسه لحفظ القرآن العظيم، وإن أمد الله في العمر أدرك ما كتب له من العلوم والفنون الأخرى.
4- يستحسن أن يكون بجواره كتابٌ مختصر في التفسير ليطالع ما دعت إليه الضرورة من معاني الكلمات، أو مفهوم بعض الآيات، وليطرد به السآمة والملل عن نفسه بلا إسراف، ونوصي هنا بمفردات الراغب الأصفهاني وتفسير ابن السعدي.
5- يمتد وقت البرنامج الصباحي إلى أذان الظهر، يتخلله تناول الإفطار في أي ساعات الصباح الأولى شاءها الطالب.
6- بعد صلاة الظهر وتناولِ الغداء ينبغي أخذ قسط من الراحة والنوم بحدود الساعة إلى الساعة والنصف، ولا يتجاوز الساعتين بحال, وينفرد بنفسه لاستكمال حفظ وِرْدِهِ إن لم يكن فرغ منها؛ إذ بالإمكان حفظ الحزب المقرر والفراغ منه قبل الظهر, وهذا أمر تتفاوت فيه القدرات وتتباين فيه الاستعدادات.
7- بعد العصر تبدأ المراجعة للحزب اليومي دون ملل أو كلل طيلة يومه وليلته وغده كما تقدم.
8- في خلال ثمانين يومًا يكون الطالب قد أتم الحفظ كاملًا وإن شاء أن يحفظ كل يومين نصف جزء أمكنه حفظ القرآن كاملًا في عشرين ومائة يوم بإذن الحي القيوم, والله المسؤول أن يجعلنا من أهل القرآن حملًا وأداءً, وقولًا وعملًا وجهادًا.
ثانيًا: برنامج حفظ الصحيحين:
وهذا البرنامج لا يفضل الشروع فيه إلا لمن أتم حفظ القرآن الكريم وأتقنه، وللتسهيل والاختصار يستحسن البدء بالمختصرين، أعني مختصر البخاري للزبيدي، ومختصر مسلم للمنذري، وليبدأ بأحدهما، ثم يحفظ زيادات الثاني عليه، ولو شرع الطالب بحفظ مختصر مسلم مثلًا لوجده يتكون من 580 صفحة وفق طبعة المكتب الإسلامي، وتحقيق العلامة ناصر الدين الألباني، ويمكنه أن يقسمه على 58 يومًا بمعدل 10 صفحات كل يوم، فيكون قد أتم حفظه في أقل من شهرين، ثم يأخذ زيادات البخاري ويحفظها بسهولة في الشهر المتبقي.
آلية البرنامج:
1- يبدأ البرنامج اليومي عقب صلاة الفجر وقراءة الأوراد الصباحية بقراءة الحديث مرة أو مرتين، ثم حفظه، أو تجزئته إلى أسطر وجمل إن كان الحديث طويلًا، ومسألة الطول والقصر مسألة نسبية، وفي ظني أن الحديث إذا تجاوز خمسة أسطر فيحتاج إلى تقسيم من أجل ضبطه.
ولا ينبغي الانتقال إلى حديث آخر إلا بعد التأكد من إتقان الحديث ومعرفة راويه، ثم يشرع الطالب في الحديث الثاني، ثم يقرأ الاثنين معًا عن ظهر قلب، ثم يأخذ الحديث الثالث وهكذا حتى يفرغ من الأوجه المقررة كل يوم، وأعتقد أن فترة ما بين الصباح إلى الظهر كافية لحفظ المطلوب وإتقانه شريطة التركيز، وجمع الذهن واستغلال الوقت كله عدا ما لا بد منه كالإفطار مثلًا.
2- بعد صلاة الظهر يفضل تناول الغداء مبكرًا، ثم الراحة والنوم ما بين الساعة إلى الساعة والنصف، ولا يتجاوز الساعتين بحال، وعند الاستيقاظ يبدأ الطالب بمراجعة محفوظاته اليومية، ويستذكر محفوظاته بصوت مسموع؛ إذ إن ذلك مما يعين على تثبيت الحفظ وتركيزه.
3- بعد العصر-وهو في الصيف وقت ذهبي ثمين- يقضيه في مكان خالٍ إما في منزله أو مسجد أو غيره يراجع محفوظات اليوم، ومحفوظات الأمس والذي قبله وهكذا؛ لأنه في كل يوم ستزيد تلك المحفوظات بإذن الله، فحتى لا تتعرض للنسيان يخصص فترة ما بعد العصر وإلى الحادية عشرة مساء في المدارسة والمراجعة، موطنًا نفسه على الصبر والاحتساب، وليتذكر أنه بهذا العمل الجليل ينضم إلى جماعة المعظمين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتشبه بعمالقة هذه الأمة وجهابذتها من أمثال أبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة، وأنس -رضي الله عنهم- ومالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وأبي داوود ويحيى بن معين والدارقطني وسفيان وغيرهم -رحمهم الله- ممن جعلوا حفظ الحديث والتفقه فيه صناعتهم وهممهم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع
ولا ينبغي لطالب العلم والحديث أن يحقر نفسه، أو يستصعب المشوار، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، ومسافة الألف ميل تبدأ بخطوة.
4- فترة ما بين المغرب والعشاء تكون فترة الراحة المفيدة، والراحة المفيدة تكون بالجلوس مع الوالدين والإخوان، وقضاء حوائجهم أو زيارة الأقارب، وصلة الأرحام أو مطالعة كتاب، أو استماع شيء نافع.
ثالثًا: برنامج الداعية:
هذا البرنامج مخصص للداعية المبتدئ الراغب في المساهمة في الحقل الدعوي، إلقاءً، ووعظًا، وخطابة، وتوزيعًا للمواد الدعوية النافعة أو التنسيق للمشايخ والدعاة في إلقاء الكلمات وإحياء الأمسيات الشبابية في الاستراحات وخلافها ويكون ما تقدم وفق التالي:
أولًا: إلقاء الكلمات:
1- على الراغب في تعلم الإلقاء والوعظ أن يمرن نفسه في بادئ الأمر على الكلمات القصيرة أمام زملائه، وفي المساجد الصغيرة، وليُحضِّر كلمة قصيرة لا تتجاوز سبع دقائق أو عشر تكون مادتها حديثًا يحفظه، ويلخص فوائده للحضور، ثم يكرر هذه الكلمة في مسجد ثان، وثالث، ورابع حتى ينطلق لسانه، ويزول هاجس الرهبة.
2- في المرحلة الثانية يُعود نفسه إلقاء كلمات متنوعة؛ فمرة عن فضل قيام الليل، ثم عن ثواب صيام التطوع، ثم عن الصبر، ثم عن الحلم، ثم عن بر الوالدين ... وهكذا، وهذه الكلمات تكون من إنشائه في الأصل وبأسلوبه الخاص دون محاولة تقليد أحد من الناس مهما كان مؤثرًا.
3- في المرحلة الثالثة على الداعية أن يقترب كثيرًا من المساجد الكبيرة والمكتظة بالمصلين، ويعود نفسه على الإقدام والمبادرة بشجاعة، وليحسن التوكل على الله، فإنه معينه وكافيه، ثم ليحذر النكوص أو التراجع عند رؤيته من يعرفه أو يفوقه علمًا أو يسبقه دعوة، فقد كان ثابت بن قيس بن شماس -رضي الله عنه- خطيبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب الوفود بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي غيبته.
4- في المرحلة الرابعة ينبغي للداعية أن يعلي المنابر، ويخطب الجمع، ويقرأ ما كتبه أهل العلم ونشروه فيستفيد منه، وإن عود نفسه منذ البداية على التحضير والإعداد الذاتي فذلك أمكن له وأفضل وأدعى لتحقيق النجاح بإذن الله وقوته.
ثانيًا: الرحلات الدعوية:
وهذا البرنامج يفضل أن يكون جماعيًا، فلا يقل العدد عن ثلاثة أفراد، ولا يزيد عن خمسة، ويحددون لأنفسهم خط سير مدروس باتجاه الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب، ثم العودة بنفس الخط أو القيام برحلة دائرية حول مناطق المملكة شرقًا فشمالًا فغربًا فجنوبًا وهكذا كل بحسبه، وبما يروق له، وفي هذه الرحلات يتم ما يلي:
1- حمل المطويات والكتيبات والأشرطة النافعة المنسوخة من قبل الجهات ذات العلاقة، وإهداء بعضها للمكاتب الدعوية التي يمرون بها، أو توزيعها على المساجد والعامة الذين يقابلونهم في الطريق.
2- يفضل أن يكون بين المجموعة شخص أو أكثر قادرين على الإلقاء والوعظ في المساجد التي يمرون بها ليعم نفعهم في كل أرض يحلون بها.
3- يحرص الدعاة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن، ويزورون مكاتب الهيئات التي يمرون بها، ويدعون لهم ويثبتونهم.
4- يحرص الدعاة على زيارة الهجر والقرى والبقاء معهم وقتًا كافيًا، يشرحون لهم أركان الإسلام والإيمان، ويعلمونهم الوضوء والصلاة وما يحتاجونه من ضروريات العلم.
5- يحرص الدعاة على تدوين كل ما يعرض لهم من عقبات، أو تطرح من استفتاءات أو يطلب منهم من احتياجات حتى يضعوا لها الحلول في رحلاتهم القادمة، ويفيدوا غيرهم من خبرتهم وتجربتهم.
وليتذكر الداعية أنه يقتدي بأسلافه الكرام من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم كمعاذ بن جبل، وأبي موسى الأشعري، وأبي ذر الغفاري الذين بعثوا دعاة إلى الله في كل مكان.
رابعًا: حفظ المتون:
وهذا البرنامج يتيح لطالب العلم حفظ أبرز المتون وأهمها، ولا أقل من متن واحد في كل فن:
1- الحديث:
أ- عمدة الأحكام للمقدسي.
ب- بلوغ المرام لابن حجر.
2- المصطلح ( علوم الحديث ):
أ- نخبة الفكر لابن حجر.
ب- نظم البيقونية لطه البيقوني.
3- التوحيد:
أ- ثلاثة الأصول.
ب- القواعد الأربع.
ج- كتاب التوحيد.
ثلاثتها لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
د- سلم الوصول لحافظ الحكمي.
هـ- العقيدة السفّارينية للسفاريني.
و- الواسطية.
ز- الطحاوية.
4- الفرائض:
أ- الرحبية.
ب- البرهانية.
5- أصول الفقه:
أ- الورقات للجويني.
ب- مختصر التحرير للفتوحي، ويفضل أن يكون بجوار الطالب شرحه الكوكب المنير لشرح الغامض عند الضرورة.
6- أصول التفسير:
أ- مقدمة التفسير لشيخ الإسلام.
ب- القواعد الحسان لابن سعدي.
7- النحو:
أ- الآجرومية.
ب- أجزاء من ألفية بن مالك.
آلية البرنامج:
أ- ينتقي الطالب ثلاثة متون من هذه المجموعات، وتكون من فنون مختلفة، ولا يزيد عليها، ويقسمها على ساعات اليوم، ويقترح ما يلي:
المجموعة الأولى:
1- عمدة الأحكام للمقدسي.
2- نظم البيقونية.
3- ثلاثة الأصول والقواعد الأربع.
المجموعة الثانية:
1- كتاب التوحيد.
2- الرحبية.
3- الورقات.
المجموعة الثالثة:
1- نخبة الفكر.
2- سلم الوصول.
3- القواعد الحسان.
المجموعة الرابعة:
1- مختصر التحرير.
2- البرهانية.
المجموعة الخامسة:
1- مقدمة التفسير.
2- الآجرومية.
3- السفارينية.
المجموعة السادسة:
1- بلوغ المرام.
2- الواسطية.
3- الطحاوية.
4- أجزاء من الألفية.
ب- كل مجموعة يخصص لها عشرين يومًا فيكون إجمالي المجموعات الخمس 100 يومًا هي فترة الإجازة، وأما المجموعة السادسة فيحفظها إبان العام الدراسي.
ج- قد رُوعي في التقسيم المذكور التناسب إلى حد ما من حيث الطول والقصر، كما أخذ في الحسبان تنوع الفنون.
د- مثال على آلية تنفيذ المجموعة الأولى:
سيجد الطالب أن عمدة الأحكام قرابة 500 حديثًا، فيحفظ كل يوم قرابة 25 حديثًا، فيشرع في حفظها بعد صلاة الفجر وقراءة الأذكار الصباحية، ويكررها ويراجعها إلى الظهر، مع ما يتخلل ذلك من فترة قصيرة للإفطار، وبعد صلاة الظهر والغداء المبكر ينام بما لا يقل عن ساعة ولا يزيد عن ساعتين بحال.
وقبل صلاة العصر وبعدها يراجع ما حفظه من العمدة، وأما المغرب فكما في البرامج السابقة، وبعد العشاء يحفظ بيتين أو ثلاثة من البيقونية ويكرر ما حفظ كل ليلة، وسيجد نفسه -بإذن الله- قد أتقنها في نهاية الفترة المحددة، علمًا بأن البيقونية منظومة خفيفة الظل، قليلة الأبيات، إذ لا تتجاوز الـ34 بيتًا كما هو معلوم.
وأما ثلاثة الأصول والقواعد الأربع فتحفظ فيما تبقى من المساء وتكرر للتثبيت، وهما من القصر والسهولة بمكان بحيث يفضل استغلال الوقت في تثبيت العمدة ومراجعتها بشكل أكبر آخر الليل.
هـ- أما المجموعات الباقية فبنفس الطريقة بحيث يراعى المتن الأطول، فيعطى وقتًا كافيًا، ويقسم على الفترة المقترحة، وهكذا حتى يختم الطالب بإذن الله هذه الأمهات من المتون في نهاية الإجازة، واحذر أيها المسدد من تخذيل المخذلين وكيد الشياطين، فبحسن التوكل وقوة العزيمة وشجاعة القلب يصبح المستحيل في نظر الناس واقعًا محسوسًا وأمرًا ممكنًا.
تنبيه:
لا يشترط حفظ المجموعات الخمس في الإجازة، وإنما كل طالب ينتقي بحسب قدرته، كأن يختار أربع مجموعات أو ثلاث، ويقسم أيام الإجازة على هذه المجموعات المختارة؛ إذ إن طلاب العلم يتفاوتون في قوة الحفظ وصدق العزيمة.
والله الموفق
المصدر: (صيد الفوائد ) fiogf49gjkf0d fiogf49gjkf0d |