تمت الإضافة بتاريخ : 17/07/2024

من عبادات أوقات المصائب: الصبر

هدى عبد الرحمن النمر

الصَّبر في اللغة: "حَبْسُ النَّفْسِ عِنْدَ الْجَزَعِ" [لسان العرب]؛ وفي الشرع: إمساك النفس عند مواطن الشدّة والجَزَع عن أن يَصدُر منها ما يصدُر من جَزوع هَلوع، كالصراخ والنياحة واللطم والنّدْب...

 

ومما ورد في أقوال السلف في تعريف الصبر:

 

"ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله تعالى" [الجرجاني – "التعريفات"]

"حبس النفس عن محارم الله تعالى، وحبسها على فرائضه، وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره" [ابن القيّم – "رسالة إلى أحد إخوانه"]

"ثبات القلب على ما تقتضيه الأحكام القَدَريّة والشرعيّة" [ابن القيّم – "الروح"]

"عن بعض أصحاب سُفيان الثَّوْري أنه قال: ثلاث من الصبر: ألا تحدّث بوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك" [تفسير ابن كثير]

وفي تفسير قوله تعالى على لسان سيدنا يعقوب لمّا بلَغَه نبأ فقد يوسف فقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَالله تعالى الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، جاء في تعريف الصبر الجميل أنه: "صبر لا شكوى فيه (للخَلْق)" [تفسير ابن كثير]؛ "هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى؛ وقيل: المعنى لا أعاشركم على كآبة الوجه وعُبوس الجبين، بل أعاشركم على ما كنت عليه معكم" [تفسير القرطبي]

 

ومما يعين على الصبر الجميل، الحرص على تذكير النفس بنعم الله تعالى الحاضرة التي لا يخلو منها أحد مهما اشتدّ ابتلاؤه، وتقليب الخاطر فيما يستثير في النفس حمد الله تعالى وشكره بصدق، ولو لم يجد المؤمن إلا نعمة الإسلام لكفى بها نعمة ولَقَصُر دونها شُكرُه! فأي بلاء أعظم من أن يُختم لامرئ على كفر ويُخلَّد بسببه في عذاب مقيم؟! وأيُّ بلاء لا يعوِّضه عظيم ما أعدَّ الله تعالى في الآخرة من ثواب دائمٍ ونعيم دائب، يَصُبّه صبًّا على المؤمن الصابر المحتسب في الدنيا؟!

 

ومن المزالق التي ينبغي أن يتنبّه لها المؤمن، خاصة حين يطول ابتلاؤه أو تكثر مصائبه، ألّا ينحصر فكره وتقليب خاطره في مدى ما يعاني وشدّة ما يلقى، لئلا ينقلب الصبر الجميل لتصبّر مرير، تظهر مراراته وينعكس مَضضه في: نبرة التهكّم أو السخط أو الأسى على كدر الدنيا ونكد الأحوال وانحدار الإنسانية... إلخ، وفي عمق الشعور بالرثاء للنفس والشفقة على الذات وتوقع دوام العطف والمراعاة التامَّيْن ممن حوله خاصة ممن يراهم معافين، وفي شدّة الحساسية وسرعة العصبية بسبب عدم الرضا الكامن في النفس... إلى آخر الآفات الناشئة عن استقرار شعور المرء بأنه "ضحية"، وما هكذا يكون شعور المؤمن أبدًا تجاه أقدار الله تعالى معه وفيه؛ فهذا يخالف مقتضيات اعتقاده في الله تعالى الحكيم العليم الخبير الفعَّال لما يريد.

 

والصبر الذي هو مفتاح الفرج إنما يتأتّى بالاستعانة بالله تعالى على الصبر، والمصابرة في ذلك، أي المثابرة في التحمّل بجَلَد وصلابة، بتوطين النفس على الرضا والاستكانة لمقدور الله تعالى، مع الأمل في فرج الله تعالى واليقين في ولايته ووعده، بدون استعجال أو يأس أو هروبية بإيقاع النفس عمدًا في مختلف صور الغفلة واتباع الهوى للنسيان والتناسي، فما لك من الصبر بُدٌّ، وما لك عن الله تعالى غنى، وإلّا أين المَفرّ؟!

وصحيح أن المؤمن بشر ويعرض له ما يعرض للبشر من أطوار تخاذل وضعف همّة وخَوَر عزم وهوان نفس... لكنَّ كونه مؤمنًا يقتضي ألا يكون ذلك هو الأصل فيه وإن طرأ عليه، والعبرة في النهاية بما غلب على حاله، وبما يغلب على نفسيّته عامة في تعامله مع مختلف مِحَن الحياة، بحسب مدى إيمانه وحسن تربيته وتهذيبه لنفسه.

 

ولنتفكّر هُنيْهَة فيما وردنا من أحوال أبناء الأنبياء عليهم السلام، والأنبياء هم أكرم الخلق على المولى:

 

• منهم مَن أُخرِج ابنه من ذريّته ودينه ولم يؤمن: سيدنا نوح عليه السلام.

 

• ومنهم من لم يُرزق الذرّية: سيدنا إدريس ويحيى ويوسف عليهم السلام.

 

• ومنهم من مات ولده بين يديه وهو يبكيه: سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.

 

• ومنهم من كُتب له غلام حليم وخَلَفه في النبوّة: سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل عليهما السلام، ومن بعدهما سيدنا إسحاق عليه السلام.

 

• ومنهم من غُيّب عنه ابنه سنوات لا يعلم من حاله شيئًا: سيدنا يعقوب عليه السلام.

 

فهل حصل أن قارن نبي حاله بحال نبيّ آخر، أو قال: "يا ربّ لِمَ"؟!

 

حاشا وكلّا!

 

وإذن اذكر أنك لستَ في سباق مع غيرك من الخلق، لا في المنحة ولا في المحنة، لا في الرزق ولا في المنع، لا في الصحة ولا في العافية، وإنما أنتَ في امتحان مخصوص بك مقصود لك كما أنتَ مقصود فيه، فلكلٍّ حكايته ونصيبه وتوقيته، فلا تَمُدَّن عينيك إلى حَيَوات غيرك وترهق نفسك بالمقارنات، إذ كلما امتدت عيناك ضاق صدرك، وكذلك لا تسمح لأحد أن يصادر عليك حياتك بأحكام حياته، وإنما اشتغل بشأنك، وفوّض الأمر لذي الأمر، وارجُ خيرًا من الله تعالى، أهل كل خير قطعًا، ولا يخيب فيه رجاء أبدًا.

 

وإلى ربنا المُسْتَقَرُّ؛ فالحمد لله تعالى الذي لا تضيع عنده مَظْلَمَة، ولا تُظلم مَكْرَمة.