تمت الإضافة بتاريخ : 17/02/2024

إني امرؤ صائم

كمال عبدالمنعم محمد خليل

الأخلاق هي عنوان رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد وصفه ربُّه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وفرض الله تعالى العبادات لتكون مُهذِّبةً للنفس مزكيةً لها، فالصلاةُ تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تُطهِّر النفس من الشُّحِّ والبخل والأثرة، والحج يُربِّي النفس على التضحية بالوقت والجهد والمال من أجل نيل مغفرة الله تعالى، ومحو الذنوب، ليعود الحاجُّ من عبادته كيوم ولدته أمُّه، والصوم تدريب على كبح جماح هذه النفس عن الحلال في نهار رمضان، وعن الحرام ليلًا ونهارًا، فهو تدريبٌ شاقٌّ لا يجتازه إلَّا مَنْ عَلَتْ هِمَّتُه، وعزم على الوصول إلى هدفه؛ فتسمو أخلاقُه، وتترفَّع عن الدنايا من القول والعمل.

والمسلم بوجه عام يخرج من بيته وهو على يقين أنه قد يتعرَّض لموقف يغضبه، أو يفقده اتِّزانه الانفعالي، وقد يدفعه إلى الوقوع فى الإثم من القول أو الفعل، فهو يتعامل مع طبائع مختلفة من البشر؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم له هدي من القول وهو خارج من بيته، روى أصحاب السُّنَن الأربعة، واللفظ لأبي داود عن أُمِّ سلمة رضي الله عنها، قالت: مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ"، قال الشيخ محمد شمس الحق العظيم آبادي في كتاب عون المعبود شرح سنن أبي داود: (أن أَضِلَّ)؛ أي: عن الحق، وهو من الضلال، خلاف الرشاد والهداية، (أو أُضَل) بصيغة المجهول من الإضلال؛ أي: يُضلني أحد، أو بصيغة المعلوم، (أو أَزِلَّ) بفتح الهمزة وكسر الزاي وتشديد اللام، من الزلَّة، وهي ذنبٌ من غير قصدٍ تشبيهًا بزلَّة القدم، (أو أُزَلَّ) من الإزلال معلومًا ومجهولًا، (أو أَظلِمَ)؛ أي: أحدًا (أو أُظلَمَ)؛ أي: من أحد، (أو أَجهَل) على بناء المعروف؛ أي: أفعل فعل الجُهَّال من الإضرار والإيذاء وغير ذلك، (أو يُجهَل عليَّ) بناء المجهول؛ أي: يفعل الناس بي أفعال الجُهَّال من إيصال الضرر إليَّ)؛ انتهى.

وإذا تكلمنا عن عبادة الصيام تحديدًا نجد أن الوصول إلى التقوى هو الهدف الأسمى من تلك العبادة؛ لذلك خُتِمَتْ آياتُ الصيام بقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، وممَّا يُساعد فى تحقيق هذا الهدف كفُّ اللِّسان عن اللغو والرفث والفحش من القول والسباب واللعن، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ...".

وإذا تدبَّرنا هذا الحديث نجد أنه يحثُّ على تجنُّب مبادلة المسيء إساءته، ويؤثر الإعراض عنه بطريقة تجعله يكفُّ عن الاستمرار في الإساءة، فهو من ناحية يقولها يُذكِّر بها نفسَه أنه في وقت عبادة تمنعه عن الرد على المسيء، ومن ناحية أخرى تجعل المسيء يفيء ويتذكَّر أنه في وقت يجب أن يترفَّع فيه عن هذا الخطأ الذي وقع فيه، وقد تكلَّم الفقهاء في هذا الحديث خاصةً في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقل: "إني صائم"، هل يجهر بها الصائم، أمْ يُردِّدُها في نفسه؟

قال بعضهم: يجهر بها ليسمعها الذي يسُبُّ ويشتم ليرتدع، وقال آخرون: يُردِّدُها في نفسه سِرًّا، وتوسَّط البعضُ في قولهم: يجهر بها إن كان فرضًا، ويُسِرُّ بها إن كان نفلًا.

وسواء أخذنا بهذا القول أو ذاك فإن النتيجة التي نريد أن نصل إليها واحدة؛ وهي الإعراض عن الجاهلين، وعدم الردِّ عليهم بما يعلنونه من السباب وفحش القول، وقول الصائم: "إني صائم" إظهارٌ للسبب الذي من أجله امتنع عن الردِّ، فهو لم يردَّ الإساءة لضعفه وعجزه؛ وإنَّما امتنع عن الردِّ امتثالًا لقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الجملة "إني صائم" يتذكَّرُها الصائم في كل أحواله لتزيد عنده المراقبة لله تعالى، فتتزكَّى نفسُه بهذه الفريضة، وقد يظهر الصائم هذه العبارة تصرفًا عمليًّا، فيعرض عن مواطن الزَّلَل، ويصون جوارحَه عن كل ما ينقص أو يفسد عبادة الصيام، قال الشاعر:

إذا لم يكن في السَّمْع مني تصامم

وفي مُقْلتي غض وفي منطقي صمت

فحظِّي إذن من صومي الجوع والظَّما

وإن قلتُ إني صُمْتُ يومًا فما صُمْت

اللهُمَّ تقبَّل مِنَّا صالح الأعمال، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.