تمت الإضافة بتاريخ : 19/08/2023

التشتت بين كم الأهداف وبطء الإنجاز وضيق الوقت!

هدى عبد الرحمن النمر

إن أحد أسباب ثِقَل تنظيم الوقت والشروع في الإنجاز هو حشد الكثير من المهمات الكبيرة في نفس اليوم.

 

فتصير الخطة ترهيبًا لا ترغيبًا؛ لأن الشروع في مهمات عديدة يستنزف الطاقة بدل أن يستثمرها، ويشتت المرء عن التركيز على العمل الآني؛ لأنه مشغول بالقلق على ما سيتبقى من وقت للبقية.

 

إنك هكذا كمن يَنشُد ساعات أكثر من الأربع وعشرين التي يحويها اليوم، والتي نصفها أو ثلاثة أرباعها ننفقها في روتينيات الحياة.

 

فلو أنك تخطط لتأليف كتاب، أو تعلم لغة، أو إتقان القيادة، بالإضافة للأعمال المنزلية والواجبات الروتينية كل أسبوع، ستجد أن الوقت المتاح لهذه أو تلك يكاد يكون ضئيلًا لإتمام أي منها بصورة مُرْضِية.

 

وإن فرضنا أن اليوم يتسع لمائة مَهمة، فذلك يعني أن تقضي حوالَيْ ثلاث دقائق ونصف في كل منها! ستنجزها في نهاية المطاف نعم، لكن ربما بعد مائة سنة بتلك الطريقة!

فيما يلي بعض المقترحات لحسن الموازنة بين تطلعاتك وطاقاتك:

 

1. لا تَحشر أهدافك في خانة واحدة!

الأنفع أن تحدد لكل فترة (يوم/ أسبوع/ شهر) عددًا معينًا من المَهمات، وتَمضي معها حتى تتمها، ثم تنتقل لغيرها، فإما أن تركز جهودك على مشروع واحد حتى تُنجزَه، أو تنوِّع بين مشروعين أو ثلاثة على الأكثر، تُقسِّم وقتك بينها بما يكفي لتُنجِز قَدْرًا ذا قيمة في كل منها، مثلًا: لا تحاول أن تتبع حِمية، وتُقلِع عن التدخين في ذات الوقت - لو استطعت ذلك فبها ونَعِمت، لكن هدفًا واحدًا يكفي في آن واحد - خاصة كلما كانت الأهداف كبيرة، فخذ في اعتبارك صحتك وراحتك النفسية، وكذلك جودة المحصلة وإتقان الأداء؛ فالرأي إذا قررت البَدء في تنفيذ أكثر من هدف، أن تراعِيَ أن يكون أحدهما كبيرًا طويل الأمد، كالإقلاع عن التدخين (وهذا يستغرق عدة أشهر)، إلى جانب آخر أصغر، كقراءة ست صفحات من كتاب يوميًا، أو حفظ بعض قوائم المفردات في لغة جديدة (وهذا يستغرق في حدود الشهر)، فتوازن بذلك نفسيًا بين الصبر على ما يطول أمده وحلاوة ما يسرع إنجازه.

2. فكك المشروعات لمراحل متتالية

من العقبات الكبرى في طريق تنفيذ الأهداف الكبيرة، والمشروعات طويلة الأمد، هو استضخام حجم المَهمات المطلوبة، تمامًا كمن ينظر لقِمّة هرم من بعيد، فيُخَيَّل إليه أن تسلقه مستحيل، الحل الأمثل هو أن تلعب لعبة المكعبات أو الليجو، فكك الهرم إلى مكعبات أصغر، والهدفَ الكبير إلى مهمات صغيرة على طول الطريق، فكلما أنجزت واحدة، أسلَمَتْك خطوة لما بعدها، حتى تصل لقمة الهرم، بدون أن ينقطع نَفَسُك أو تخور قُواك، وصدقني إذ أقول لك: سيدهشكَ كَمُّ الإنجازات التي ستحققها بهذه الطريقة، والهِمة التي ستملأ جوانحك بدون تعسف أو تسويف، تذكر دائمًا أن مفتاح السر هو: التصغير والمواظبة، فلا يكفي أن تُجَزِّئ العمل الكبير إلى أصغر، بل لا بد من المداومة على نفس القَدْر الصغير يومًا بعد يوم، حتى تنتهي منه.

 

هل تدري – مثلًا - أنك تستطيع حفظ القرآن كاملًا في سنة واحدة؟ ببساطة: احفظ سبع عشرة (17) آية كل يوم! تذكر: كل يوم!

 

3. ما قلّ وكفى

من المأثور عن أبي الدرداء – رضي الله عنه - قوله: "ما قلَّ وكفى خير مما كثُر وألهى"، صحيح أن هذا الأثر يقصد به في المقام الأول ذم الاستكثار من المتاع الدنيوي والاستغراق في زخرفها، كما قال بعضهم: "خذ من الدنيا ما شئت وخذ من الهم أضعافه"، لكن من جهة أخرى، هذا الإغراق وارد في الجوانب الأخرى من رحلة بناء الذات، فكم من حريص – مثلًا - على استثمار وقته بإنماء عقله ومداركه، ينتهي به الأمر مشتتًا ومضيعًا بين أكوام ثقافات لا رابط بينها، وقطوف سطحية من كل بستان زهرة، فلا هو – على وجه الحقيقة – يُصنَّف ضمن مضيع وقته ظاهرًا، ولا هو كذلك فيمن أفاد به على الوجه الأرجى، وأولئك ممن يسميهم العقاد "أنصاف الجهّال" لا الجهل دفعوا ولا بقليل العلم انتفعوا، كذلك كم من محب لعون الناس والتطوع والحركة، ينتهي به الأمر في دوامة لا قرار لها، واستنزاف بدني بل وروحي.

والوسط بين هذين - لتكون أولوياتك غنية في غير تُخَمة، وكافية في غير تقشف - استعن بقاعدة "أدومها وإن قلّ"، وثق بأن الخلل إنما ينشأ من عدم الدوام لا من القلة، خذ وقتك في التفكر في أولوياتك، ثم إعادة ترتيب الأولويات لأولويات متدرجة على مراحل، الأوْلى فالأولى، ثم امض معها حتى تنهيها فتشرع فيما يليها، كلما تفكرت في فقه الأولويات ستزداد جودة تعاملك مع وقتك ومسوؤلياتك، وكلما تأنيت وتخففت من الحشد النفسي والحمّى الإنجازية، سيمكنك الشعور بثراء حياتك وعمقها كأنك تعيش حيوات مضاعفة حقًّا.

 

ختامًا، تذكر أنك لست في سباق مع الزمن لتنجز أكثر ما يمكن إنجازه، بل إنك في تنافس مع ذاتك لتكون أحسن ما يمكن أن تكون، ذلك أننا في عصر اليوم نميل إلى الاعتقاد أن الغَلبَة للأسرع، وأنه لا بد من الإنجاز المَحمُوم، كما لو كنا في سباق ماراثون، لكن الحقيقة التي نَغفَل عنها هي أن أعظم إنجازات الإنسانية، تحققت بالمثابرة البطيئة والصبر على الرحلة دون تعجل الثمار قبل أوانها، لذلك فالعبرة بإتقان ما تفعل الآن لا بدوام التعجّل للوصول لما يمكن تحصيله مستقبلًا، وإذا كنا نتحدث عن عمر يُنفَق وحياة تمضي فلا خير مهما صغر صغير، ولا استهتار مهما قلّ قليل.

 

وكما يقول مصطفى صادق الرافعي، في كتابه "تحت راية القرآن": "البطء والقوة إلى زيادة خير من السرعة والقوة إلى نقص".