تمت الإضافة بتاريخ : 19/08/2023

قدّم المعروف ولا تنتظر المقابل!

د. أنس جراب

لا شك أن كل واحد منا خاض نقاشًا مع من حوله عن ندمه على تقديم المعروف لهذا الشخص أو ذاك، أو - على الأقل - أبدى استغرابه من عدم الوفاء تجاه ما قدمه من مساعدة أو عون للطرف الآخر، ثم يقول لو عاد بي الزمن لما فعلت هذا أو ذاك!

 

والحقيقة أن العلاقات بين البشر يكتنفها نوع من الغموض؛ فالنفوس بحد ذاتها متقلبة، وصديق الأمس قد يكون عدو اليوم، والعكس صحيح .

 

وإن كنت أؤمن أن هناك عوامل كثيرة تقف وراء هذا الأمر، والأمر ليس محصورًا بالنفس ذاتها - وإن كان لها الدور المحوري في ذلك - وفي الوقت نفسه هذا لا ينحصر في إطار العمل والعلاقات الاجتماعية، بل قد يحصل داخل الأسرة الواحدة بين الأخ وإخوته، أو بين الزوجين، أو بين الأب وأبنائه!

وهو جزء من سوء الظن، وحينما تبحث في أسباب التغيّر قد تجدها أمورًا صغيرة، أو أن الطرف الآخر يعيش عوامل وظروفًا معينة جعلته يشعر بأنه محاط بالمؤامرات التي تهدف إلى الإيقاع به في النهاية، أو أنه يسمع كثيرًا لطرف هنا أو هناك أثّر على تفكيره وغيّر موقفه.

 

طبيعة النفوس حينما تتغير أنها لا تراعي حال الطرف المقابل، بل أحيانًا تبالغ في التغيّر لتصل إلى مرحلة نكران الجميل، وتفسير كل جميل من المواقف وفق نظرية المؤامرة، وأنها ذريعة لمقصد آخر

 

لست بصدد الحديث بالتفصيل عن أسباب التغيّر في العلاقات، وانهيار بعضها ووصولها إلى مرحلة بالغة السوء حتى تصل إلى المقاطعة والتدابر، وتدفع المحيطين أو المقربين إلى التوجّس والخوف من التأويل المبالغ فيه لتصرفاتهم، والخوف من إبداء الرأي، ولكنني أريد أن أركز في كلامي على: ماذا بعد؟ ماذا لو تغيّر الطرف الآخر (زميل، قريب، أخ، زوج، ابن) وكيف أعالج هذا الأمر، وهل من داعٍ للشعور بالندم على ما قدمت؟!

 

من المستفيد من فعل الخير؟

عند تقديم الخير للآخرين وإسداء معروفٍ ما في أمر يخصه، فإن الأمر يعود بالفائدة أساسًا على نفس الشخص الذي بادر بالمعروف ؛ لأننا ننظر إلى البعد الأخروي قبل البعد الدنيوي، وهو ما نصت عليه الآيات القرآنية، فقد قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍۢ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110]، وقال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20]

وتأمّل معي في الزكاة والصدقات والتي هي إحسان محض بدون النظر إلى المقابل، فيقول الله تعالى فيها: {وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَاْ فِىٓ أَمْوَٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا يَرْبُواْ عِندَ ٱللَّهِ ۖ وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زَكَوٰةٍۢ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]، وكذلك قوله ﷺ: "والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار(" (رواه أحمد والترمذي وغيرهما)

وكذلك في الأعمال التي يغلب عليها الجانب الاجتماعي والمواساة، كقوله ﷺ: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين" (رواه الترمذي)، وقوله: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" (متفق عليه)

 

وهناك الكثير من الأعمال الأخرى التي علّق مقابلها على الأجر الأخروي، وبمعنى آخر فإن الإسلام يحث المسلم على تقديم العمل بدون النظر إلى مقابل دنيوي، بل يكون على يقين بأن الأجر لا يضيع ؛ فغاية عمل الإنسان هو عبادة الله ونيل رضاه ودخول جنته ولا شيء غير ذلك، وهل هناك أجمل من أن يكون الجزاء من الله عز وجل!

 

جاء في الحديث الذي رواه الشيخان: "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة"، وجاء في مسلم: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، بل نجد أن النبي ﷺ قدم مساعدة الناس على الاعتكاف في المسجد النبوي، كما جاء عند الطبراني وغيره بسند حسن، فقد قال ﷺ: "ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد (يعني مسجد المدينة) شهرًا" ويقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - معلقًا على الحديث: "قضاء حوائج المسلمين أهم من الاعتكاف؛ لأن نفعها متعدٍ، والنفع المتعدي أفضل من النفع القاصر، إلا إذا كان النفع القاصر من مهمات الإسلام وواجباته"

ماذا بعد التغيّر؟

لا داعي لأن تجزع أو تلوم نفسك، ولو كنت سببًا في وصول مبغضك إلى أعلى الدرجات في الدنيا، فما أنت إلا وسيلة يسّرها الله لنفع الآخرين، ويكفيك أن تكون أنت النافع لغيرك، وصاحب الفضل، ويكفيك أن تنال الأجر من الله على ما قدمت؛ فإن المسلم لا يقدم على فعل إلا ابتغاء للأجر والثواب وليس للحصول على المقابل من الناس ، بل إن انتظار المقابل من الناس هو تصغير لعظم الثواب والأجر، صحيح أن النفس تحب المدح، وتحب نيل المقابل الدنيوي، لكن هذا الأمر يحتاج إلى المجاهدة؛ لأن الربط لا يكون إلا بالثواب فقط.

 

لذلك حينما تربط العطاء بالثواب فستتجاوز كل محنة من هذا الشأن، صحيح أن بعضها مؤثر، ويرهق النفس حزنًا وتفكيرًا بما حصل، لكنها بالمجمل لن تجعلك أسير أحزانك، وتوقف حياتك على لحظات معينة، ومع ذلك فإنني لا أدعو لتجاهل الآخرين، بل لا بأس أن تدعو لهم بالهداية والصلاح، وأن تراجع نفسك لعلّك أخطأت أو قصرت، أو بالغت في محبتك وحرصك ففسرت تصرفاتك على خلاف ما تبغي، وقد تكون المراجعة أفضل إن استشرت من تثق به، لعله يبين لك خطأ قمت به، أو تقصيرًا وسوء تقدير من قبلك.

 

وتذكر، أنك كإنسان لا تستطيع أن تتحكم بمشاعر الناس ونفسياتهم، فلا تستغرب إن تغيّر بعضهم، ولا داعي لأن تقتل نفسك حزنًا على أمر لا تستطيع دفعه، بل خفف عن نفسك أنك قدمت المعروف، وأنك كنت وسيلة للمساعدة في أمر ما، وكن على يقين أن معروفك لن يضيع سدى.

والأهم من هذا كله، لا توقف عطاءك ولا تتردد، بل اشكر الله أن جعلك وسيلة لمساعدتهم، وتذكر أن المستفيد الأول من العطاء هو أنت وليس الآخرين!

 

كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعًا :: يُرمى بصخرٍ فيُلْقِي أطيب الثمر