تمت الإضافة بتاريخ : 28/07/2022

المتفائل إنسان يقرأ

أ. محمد بن سعد الفصّام

أجل؛ المتفائل قويٌّ في عزيمته، مبتسم في ظاهره، يستَسهل الصعاب، لا يرى أن ثَمة شيئًا مستحيلاً، إنه ثورةٌ في وجه الركود، يحوِّل المحن إلى منح، مستبشر دائمًا حتى في أحْلك الظروف، يرى القيود في يديه أساورَ من الذهب، وينظر إلى السجانين بأنهم خدَم المطاعم، السجن في حقه ما هو إلا تفريغ له عن أشغاله التي أرهقته، ومنع للناس الذين أضجَروه إلى حد الصداع، مستبشر دائمًا حتى في أحلك الظروف، وهذا بلا ريب مبدأ جميل من مبادئ ديننا العظيم، وخلقٌ أصيل لنبينا الكريم، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- متفائلاً وهو مطارَد من كل العيون، و(عتاولة) الخَلق، وأجلاف الناس الحاقدين الناقمين المتربصين مع خُلقه الجم، وصبره عليهم، وحفظه لأماناتهم خدمة لهم، ولسان حاله - صلى لله عليه وسلم -:

كأني سلَبت القومَ نورَ عيونهم

فلا العذر مقبولٌ ولا الذنب يُغفرُ

 

لا سيما إذا عدم من ينصره ولو بكلمة، فلم يوجد معه إلا رجلٌ واحد، وهو صديقه ورفيق دربه وصاحبه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قريش تتربص به، وتعبِّئ القبائلَ في مطاردته، وتغريهم بقتله، فليس مهدر الدم فحسب، بل مَن قتَله فله 100 ناقة من أطيب إبل العرب، أتدري ما مقدارها في عصرنا؟! إنها تساوي 100 سيارة جديدة، ومع ذلك كان -صلى الله عليه وسلم- في قمة التفاؤل، وكان يقول لسراقة بن مالك حين جاء ليَقتله فسقَط من فرسه مرتين، قال: ((كيف بك يا سراقة وقد لبستَ سوارَي كسرى؟))، قال: كسرى بن هرمز؟! قال: ((نعم؛ كسرى بن هرمز)).

 

يقول هذا وهو مطارَد من جميع الخَلق.

 

هكذا فكن، كن متفائلاً رغم الضباب والغمام والغبار.

 

كن متفائلاً رغم السنين التي حُكم عليك بها في السجن، كن متفائلاً بالغنى رغم الفقر المدقع الذي ضرَب بأطنابه، كن متفائلاً رغم المرض الذي استَعصى على الأطباء، كن متفائلاً رغم التهجير والطلب، كن متفائلاً بالبراءة رغم التهم المتراكبة الباطلة، كن متفائلاً في الوظيفة رغم الشروط الصعبة، كوني متفائلةً رغم ما قرره الأطباء من خطورة العملية، كوني متفائلة رغم ما قرره الأطباء من العقم أو تشوه الجنين.

 

كوني متفائلة رغم السوء الذي يكال عليك كيلاً.

 

كوني متفائلةً رغم كثرة الحاسدات والحاقدات، كوني متفائلةً رغم كثرة المحتقرين لذاتك وشخصك:

فلا بد للَّيل أن ينجلي

ولا بد للقيد أن ينكَسر

ومَن لم يعانقه شوق الحياة

تَبخَّر في جوِّها واندثَر

 

إذا رأيتَ وردًا فوق الشوك، فلا تَشْكُ من ذلك الشوك الذي نبَت تحت الورد، ولكن اشكر الله أن جعل فوق الشوك وردًا، إذا ولدت زوجتكَ جنينًا فخرج ميتًا، فتذكر أن هذه نعمة من الله أنه لم يَجعلك عقيمًا، ولا زوجتكَ عاقرًا.

 

إذا أصابك البلاء تلو البلاء، فاحمَد الله على شهادته لك بالإيمان؛ ((لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة حتى يَلقى الله وليس عليه خطيئة)).

 

كان ابن تيمية يقول حينما بلَغه أن ملأ السلطان يأتَمرون به: "ما يصنع أعدائي بي؟ إن جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إنَّ حبسي خَلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة"، فانظر كيف حول التعذيب والتغريب إلى خَلوة بالله، وشهادة في سبيل الله، وسياحة؟

 

ولما سجن في سجن القلعة قال: "لو بَذلت مثلَ هذه القلعة ذهبًا ما جزيتهم على ما تَسببوا لي فيه من الخير"، فكان يرى أن هذه نعمة جاءته على غير ميعاد، في حين أن بعض من يُسجَن يرى أنه قد حُكم عليه بالإعدام لدخوله السجن، أو أنه ألقي في نار الله الموقدة، وجعَل فتنةَ الناس كعذاب الله.

 

لذلك أذكر لك:

السجن حقق له أمنيةً لم يحلم بها طيلة حياته:

أحدهم كان أمنيته تعلم اللغة الإنجليزية ليبدأ بها في مشاريع قد رسَمها في ذهنه، دفَع الأموال وتَعاقَد مع بعض المعلمين في بيته وأحيانًا في بيوتهم؛ ليتمكن من الإلمام بتلك اللغة، فلم يستطع، اشترى أشرطة صوتًا وصورة فلم يتحقق له أمله، قطَع عشرات (الكيلوات) من المسافة وسجل في دورات لمعلمين من أصول أجنبية، فلم يفلح، له همة ولكنْ حال دون تحقيقها ما لم يعرفه، عاش بين الناس والحلم يراوده، حتى سُجن في قضية ليست من قضايا الخزي والندامة، فدخل السجن فأشرقت عليه هناك شمس الأمل الذي كان يبحَث عنه طيلة سنوات، ليخرج من السجن وهو يتكلم تلك اللغة بطَلاقة، بعد أن تفرغ من كل شغل إلا دراسة تلك اللغة على يد أحد السجناء المميزين في تلك اللغة.

 

والآخر فقير معدم، عاش سنين عديدة هو يغسل الدَّيْن بالدَّين؛ ما أن يحل الدَّين حتى يستدين ما يسدد به الدَّينَ الأول وهكذا حاله، حتى دخَل السجن، فعرفه بعض المساجين، ولأخلاقه ودينه، وحالته الضعيفة، انتَشَر ذِكره في العنابر الأخرى، خرَج من السجن فجاءته التبرعات والصدقات، حتى ودَّع الفقر إلى غير رجعة، وصار من أوساط الناس الذين يقاربون درجات الأغنياء.

 

فلا تَجزَع حين يصيبك ظرف موجع ليس لك في رده يدٌ، وتَفاءل بالليل مهما ازدادت ظلمته، وبالظروف القاسية مهما كانت حدتها، ولتكن لك يدٌ في تغيير ما تكرَهه، وتتضجر منه نفسك إلى ما تُحبه، وينعش روحك.

 

لذلك أذكر لك:

كان هناك طبيب بارز محب لعمَله متفانٍ فيه، مخلص في إنجازه، وكانت طبيعة عمَله تستدعي منه الحضور في وسط الليل إن كان هناك حالات طارئة.

 

فكان أنكَرَ صوتٍ يسمعه هو رنين الهاتف ليلاً، والذي يعني أن ثَمة مشكلة في المستشفى تَنتظره، جلَس هذا الطبيب مع نفسه متأملاً في هذا الأمر، فاهتدى لوسيلة ظريفة يخفف بها متاعبَه، حيث قرر أن يعطي نفسه علامة بعد كل مناوبة ليلية، وحال اكتمال ثلاث درجات فإنه يكافئ نفسه بكتاب جميل تَمنى قراءته!

 

وبالفعل شرَع في تطبيق هذه الفكرة الظريفة، فتحولت رنات الهاتف المزعجة إلى أصوات جميلة تطربه، وأصبح يذهب إلى المناوبات بنفس منشرحة، وروح محلقة.

 

وأذكر لك أيضًا:

اشتري مزارع أرضًا ووضَع فيها كل ماله وآماله، ولما كَتَب العقد ذهَب مسرعًا فرحًا ليَراها، فلما وصَل لموقع المزرعة أصيب بصدمة قوية؛ حيث وجد تلك المزرعة أرضًا بورًا مقفرة مهجورة لا تَصلح لزراعة ولا تَنفع لري، وفوق هذا كانت عامرة بالثعابين السامة، ولا يمكن مكافحتها أو القضاء عليها.

 

أخذ المزارع يتأمل في حاله وكان بين خيارَين: إما أن يسترسل مع الألم حتى يفقد عقلَه، أو أن يحول مساره العقلي لزاوية ثانية، واختار الثانية، وبعد قليل من التأمل وبالفعل نفذ مشروعه وكان يبيع السموم إلى المعامل الطبية، والجلود إلى شركات الحقائب والأحذية، وقد رَبح من وراء هذا المشروع الملايين.

 

وإضافة إلى كل هذا، فقد حول مزرعته لحديقة متخصصة لأنواع الثعابين؛ فكان السياح يقصدونه من كل مكان؛ حتى أضحى في وقت قصير من أغنى أهل مدينته.

 

فانظر كيف حول الصحراء القاحلة إلى واحةٍ غناء، ولم يقف مكتوف اليدين منكس الرأس يَندب حظه العاثر؟

 

(في حال النقل من المادة، نأمل الإشارة إلى كتاب "ولكن سعداء.." للكاتب أ. محمد بن سعد الفصّام، والمتوفّر في مؤسسة الجريسي للتوزيع).