تمت الإضافة بتاريخ : 19/04/2022

العشر الأواخر تجدد أشواق العابدين

حسين شعبان وهدان

في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ لا تهدأُ أشواقُ الموفَّقِينَ إلى الجنَّةِ، ولا يهدأُ سعيُهُم الطهورُ رغم أن الأبدانَ بدأتْ تشعرُ بالإرهاقِ وشيءٍ من الضعفِ، ولكنَّ السلعةَ غاليةٌ، والثمن مهما كان مرهِقًا فهو بالنسبة لها غير مكافئٍ بكلِّ المقاييس؛ لهذا تنشطُ الأبدان، وتغمرُ هِمَمَ الطائعين لواقحُ مباركةٌ من المثابرةِ والجدِّ وطولِ المِرَاسِ.

 

وفي العشر الأواخر تتجددُ أشواقُ السائرين إلى اكتناز الأجورِ الغاليةِ المتبقيةِ من رمضان، كأنَّ طاقةً جديدةً قد تولَّدتْ لديهم وهم يقاربون على الوصول إلى منتهى الطَّريق، فزادت همَّتهم، وأُوقدت - من جديدٍ - عزيمتُهم، فلا تراهم إلا حافِلينَ بتنظيم شعث النَّفس، وضَبْطِ الخُطى في ميدان العبادة على صِرَاطٍ مستقيمٍ من الجد والمثابرة واليقين.

 

وكيف لا وقد كان هذا هو حال القدوة الكبرى لهم سيِّدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها قالت: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يجتهدُ في العشر الأواخر، ما لا يَجتهد في غيره"؛ [صحيح مسلم 1175].

 

ومن صور اجتهاده صلَّى الله عليه وسلم أنه كان يُحيي الليلَ بالعبادةِ، ويوقظ أهلَه، ويعتزلُ نساءه، كما أخبرَتْ أمُّ المؤمنين أيضًا: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليلَ، وأيقظ أهلَه، وجدَّ وشدَّ المئزر"؛ [صحيح مسلم 1174]، وبمثل ذلك أَخبر عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشرُ أيقظ أهلَه، ورفع المئزرَ، قيل لأبي بكرٍ: ما رفع المئزر؟ قال: اعتزل النساء"؛ [مسند أحمد 2/ 250، وقال شاكر: إسناده صحيح].

 

ومع تَلَمُّسِ مذاقِ طعوم العبادات بالبدن والقلب ونَيل المنى مِن نفحاتها، يزدادُ المؤمن على مولاه إقبالًا يزيد النَّجِيَّ تآلفًا، والبعيدَ تلطُّفًا، وتسافرُ الأشواقُ بالقلوبِ حتى تهيمَ حولَ عرشِ الرحمن في رحلات إيمانية متنقلة بين غُدَوِّها وروَاحِها، وضُحاها وأصائِلِها، ولياليها الحِسان.

 

فتارةً يأنسُ بالذِّكر والوصلِ بعد الفجر؛ حتى ينال أجرَ الحجِّ والعمرة المبشِّرَ به قولُ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((مَن جلس يَذكرُ اللهَ بعدَ صلاةِ الفجرِ حتى تطلُعَ الشمسُ ثم يصلِّي ركعتينِ، له أجرُ حجَّةٍ وعمرةٍ تامَّتَينِ)).

 

ومن بعدها الحرص على صلاة الضحى بانتظامٍ يُنبئ عن حُسن إيمان؛ فقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لسيدنا أنس: ((يا أنسُ، صلِّ صلاةَ الضُّحى؛ فإنَّها صلاةُ الأوَّابينَ))؛ [ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ 209 بسندٍ صحيحٍ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه]، ومن حديث عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم أتى مسجدَ قباء، فإذا قومٌ يصلُّونَ صلاةَ الضُّحى، فقالَ: ((صلاةُ رغبةٍ ورَهبةٍ، كانَ الأوَّابونَ يصلُّونَها حينَ ترمَضُ الفصالُ))؛ [الذهبي في تاريخ الإسلام 37/ 219، وقال: حسن ثابت الإسناد عن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما].

 

ومن صور التعبُّد التي لا يَنبغي تركها في العشر الأواخر مِن رمضان: دوام التصدُّق على قدر الطاقة؛ فإنَّ الصدقة دليلٌ ظاهرٌ على صِدق الإيمان، وهي فتح إيمانيٌّ مِن الله للعبد، ويكفي في فضلها أنها تطفئ غضَبَ الربِّ؛ فقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((الصَّدقةُ تُطفئُ غضَبَ الرَّبِّ، وتدفَعُ مِيتةَ السُّوءِ))؛ [صحيح ابن حبان 3309 عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه].

 

ويوم القيامة ستدنو الشمسُ من الرؤوس، وعندئذٍ تُظَلِّلُ الصدقةُ باذِلَها؛ فقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الصَّدقةَ لتطفئ عَن أهلِها حَرَّ القبورِ، وإنَّما يَستَظلُّ المؤمِنُ يومَ القيامةِ في ظلِّ صدقتِهِ))؛ [الألباني في صحيح الترغيب 837، وقال: حديث حسن عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه].

 

وحريٌّ بالمؤمن أن يغتنم الفرصةَ وينوِّعَ مِن الصدقات ما بين مالٍ ومطعومٍ وملبوسٍ وغيرها من صور النفع؛ لكفاية الفقراء والمعوزين عن الحاجة في قابل أيام العيد، فكلَّما عمَّتِ الفائدة وزاد النفع لأهل الحاجات، زاد الأجرُ والثواب.

?   ?   ?

 

وفي العشر الأواخر هناك عبادات مستمرَّة، وعبادات متجدِّدة تأتي في نهاية الشَّهر لتكون مِسك الختام.

فمن العبادات المستمرَّة أن يحافظ الصَّائمون على حضور الجماعات، وتلاوةِ القرآن، وحضورِ مجالس العلم ومجالس الذِّكر، والصَّدقات وزيارة المرضى، وصِلَة الأرحام وإكرام الجيران، وقيام الليل وإطعام الطعام، وغيرها مِن العبادات التي يتعانق فيها الإيمان مع تطلُّعات القلوب الأوَّابَةِ إلى ربها.

 

وفي العشر الأواخر ينشطُ العابدون بالهمَّة والاستعداد مِن جديد؛ فالهمَّةُ طريقُ القِمَّة، وزيادة على قيام الليل الذي يَعمرون به المساجد من الليل في أوله فإنهم يزيدون مِن همَّتهم بالتهجُّد، وهو صلاة يسبقها نوم، ويكون في آخر الليل قبل السحور بوقتٍ يشبع الروح ويملأ القلب ريًّا، قال الله تعالى: ? وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ? [الإسراء: 79]، وقال تعالى وصفًا عن المتقين: ? كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ? [الذاريات: 17]، وقال عن عباد الرحمن: ? وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ? [الفرقان: 64]، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: تهجَّد النبيُّ صلى الله عليه وسلم في بيتي، وتهجَّد عبَّاد بن بِشر في المسجد، فسمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم صوتَه، فقال: ((يا عائشة، هذا عبَّاد بن بشر، اللهمَّ ارحم عبَّادًا))؛ [ابن حجر العسقلاني في الفتوحات الربانية 3/ 272، وقال: حديث حسن عن عائشة رضي الله تعالى عنها].

 

ومن صور الاجتهاد المأثورة في العشر الأواخر عن خير البشَر صلى الله عليه وسلم ما أخبرَتْ به عائشةُ رضي الله عنها قالت: "إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَعتكف العشرَ الأواخر مِن رمضان حتى توفَّاه الله عزَّ وجلَّ، ثمَّ اعتكف أزواجُه من بعده"؛ [صحيح مسلم 1172].

 

وكان صلى الله عليه وسلم يرتقب ليلةَ القَدر في العشر الأواخر، وأمر أصحابَه بذلك؛ كما ورد عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن كان ملتمسها فلْيَلتمِسْها في العشر الأواخر))؛ [صحيح مسلم 1165].

 

وليحرص الصائمون تمامَ الحرص على بَذْل زكاة الفِطر خلال العشر الأواخر؛ حتى تعمَّ الفائدة، وتدور أخلاف العطاء على الفُقراء والمساكين؛ ليستطيعوا تدبيرَ ما يحتاجون إليه قُبيل العيد؛ وبهذا يقتسم الأغنياء والفقراء طعمَ الفرحة بينهم؛ فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُخرجُ صدقةَ الفطرِ قبل أنْ يخرُجَ... عن ابنِ عمرَ بطولهِ...، وفيه: وكان يأمرُنا أنْ نُخرجَها قبلَ الصَّلاةِ، وكان يُقسِّمها قبلَ أن ينصرفَ، ويقولُ: ((أَغنوهُمْ عن الطَّوافِ في هذا اليومِ))؛ [ابن حجر العسقلاني في الدراية 1/ 274، وقال: أصله في الصحيحين عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما].

 

ولا شك أنَّ بدائع الإيمان الصَّادق في نفوس المؤمنين تعبِّر دومًا عن حالهم، وتشرح سعيهم، وخصوصًا في خواتيم العمل وخواتيم الوقت؛ ولذلك تكون مكافأتهم المباركة مع الخواتيم، فساعة الإجابة يوم الجمعة تكون قبلَ الغروب، وليلة القدر تكون قبيلَ الختام في رمضان، وتظهر علامات الصلاح لأولياء الله تعالى في خواتيم أعمارهم؛ فمنهم مَن يكون وجهه متهلِّلًا، ومنهم من يموت في الصلاة وهو ساجد، ومنهم مَن يلقى اللهَ تعالى وهو يدعو إليه، ومنهم مَن يلقاه في الجهاد، ومنهم من يموت على وضوء، أو بين دفتي القرآن العظيم.

 

وعلى أعتاب النِّهايات على الدَّوام يكون آخر توقيعٍ، فاجعلوه طيبًا مشفوعًا بختامه البارز كما نَلْفَاهُ على آخر سطور الأوراق الهامَّةِ في الحياة الدنيا، بيد أنَّ ختام الطاعات سيكون معطرًا بَعَرْفِ القربِ مِن علَّام الغيوب، واتِّباع سنَّة النبي المحبوب صلى الله عليه وسلم، وأكرِمْ به مِن ختامٍ لهذه الأيام المعدودات التي مرَّت على العالَمين كنسمةِ صيفٍ في هجيرِ الحياة.

 

نسأل اللهَ تعالى أن يتقبَّل منَّا صيامنا وقيامَنا وصدقاتنا وسائر العمل الصالح، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، كما نتضرَّع إليه سبحانه أن يحسن لنا ختامَ الشهر العظيم.