تمت الإضافة بتاريخ : 10/03/2022

تذكير عباد الرحمن بفقه شهر شعبان

جمال علي يوسف فياض

فشهر شعبان من الأشهر العظيمة؛ ففيه ترفع الأعمال إلى الله، فحريٌّ بالعبد أن يتعرف على فقه هذا الشهر ووظائفه، وفي هذه الكلمات أطوف معكم حول فقه هذا الشهر العظيم، وقد رتبتها على صورة مسائل:

فأبدأ مستعينًا بحول الله وقوته، ومن يردِ الله به خيرًا، يفقهه في الدين.

 

روى الإمام النسائي رحمه الله – وحسنه الألباني – عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ((قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم))؛ [رواه النسائي في المجتبى، ح 2357 وحسنه الألباني].

 

 

المسألة الأولى: صيام أكثر شعبان:

في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان))؛ [رواه البخاري 1969، ومسلم 1156].

 

وقد رجح طائفة من العلماء - منهم ابن المبارك وغيره - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شعبان، وإنما كان يصوم أكثره؛ ويشهد له ما جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما علمته صام شهرًا كله إلا رمضان))؛ [مسلم 1156].

 

المسألة الثانية: كيف خص النبي صلى الله عليه وسلم شعبان بصيام التطوع فيه، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم))؛ [مسلم 1163]؟

الجواب: قال الإمام النووي رحمه الله: "لعله إنما علم فضله في آخر حياته، والثاني: لعله كان يعرض فيه أعذار من سفر أو مرض أو غيرهما"؛ [شرح صحيح مسلم للنووي 8/ 55].

 

المسألة الثالثة: لماذا لم يصم النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا غير رمضان؟

الجواب: قال النووي رحمه الله: "قال العلماء: وإنما لم يستكمل غير رمضان لئلا يظن وجوبه"؛ [شرح مسلم 8/ 37].

 

المسألة الرابعة: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام صيام داود، كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا))، ومع ذلك فلم يصم كذلك، بل كان صلى الله عليه وسلم يصوم سردًا ويفطر سردًا، ويصوم أكثر شعبان، وكل إثنين وخميس؟

الجواب: صيام داود عليه السلام الذي فضله النبي صلى الله عليه وسلم على الصيام قد فسره صلى الله عليه وسلم بحديث آخر بأنه صوم نصف الدهر، وكان صيام النبي صلى الله عليه وسلم إذا جُمع يبلغ صيام نصف الدهر أو يزيد.

 

وكان يصوم مع ما سبق ذكره: يوم عاشوراء، ويوم التاسع من ذي الحجة، وإنما كان يفرق صومه ولا يصوم يومًا ويفطر يومًا؛ لأنه كان يتحرى الأوقات الفاضلة، ولا يضر تفريق الصوم والفطر أكثر من يوم ويوم إذا كان القصد به التقوِّي على ما هو أفضل من الصيام من أداء الرسالة، وتبليغها، والجهاد في سبيل نشرها، والقيام بحقوقها، فكان صيام يوم وفطر يوم يضعفه عن ذلك؛ ولهذا لما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة عمن يصوم يومًا ويفطر يومين قال: ((وددت أني طوقت ذلك))؛ [مسلم 1162].

 

المسألة الخامسة: ما الحكمة من صيام النبي صلى الله عليه وسلم أكثر شهر شعبان؟

الجواب:

أ‌- أنه شهر يغفل عنه كثير من الناس بين رجب ورمضان.

وفي هذا إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقًا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها كثير من الناس؛ فيشتغلون بالمشهور منه، ويفوتون تحصيل ما ليس بمشهور عندهم.

 

وفيه كذلك دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبب لله عز وجل.

ولقد كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة.

 

كذلك فضل القيام في وسط الليل لشمول الغفلة فيه لأكثر الناس فيه عن الذكر؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن))؛ [رواه الترمذي 3579، وقال: هذا حديث حسن صحيح].

 

 

ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء إلى نصف الليل، وإنما علل ترك ذلك؛ خشية المشقة على الناس، ولما خرج على أصحابه وهم ينتظرون صلاة العشاء؛ قال لهم: ((ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم))؛ [البخاري 566].

 

 

وفي هذا إشارة إلى فضيلة الذكر في الأسواق، وما ورد من الحديث المرفوع والآثار الموقوفة؛ حتى قال أبو صالح: "إن الله ليضحك ممن يذكره في السوق"، وسبب ذلك أنه ذكر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة؛ ولهذا جاء في الحديث في فضل من ذكر الله في السوق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من دخل السوق، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة))؛ [أخرجه الترمذي 3428، وحسنه الألباني].

 

فضل إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة:

أولًا: أنه يكون أخفى:

وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام، فإنه سر بين العبد وربه؛ ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء، وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد، كان يخرج من بيته إلى السوق ومعه رغيفان، فيتصدق بهما، ويصوم، فيظن أهله أنه أكلهما، ويظن أهل سوقه أنه أكل في بيته.

 

ثانيًا: أنه أشق على النفوس:

وأفضل الأعمال أشقها على النفوس؛ وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم، كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم، فسهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها، تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المتيقظين طاعاتهم؛ لقلة من يقتدي بهم فيها؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم (ح 2948) من حديث معقل بن يسار: ((العبادة في الهرج كهجرة إليَّ))، وفي لفظ أحمد: ((العبادة في الفتنة كالهجرة إليَّ)).

 

 

وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرد مِن بينهم مَن يتمسك بدينه، ويعبد ربه، ويتبع مراضيه، ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة مَن هاجر مِن بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، متبعًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه.

 

 

ثالثًا: أن المنفرد بطاعته بين أهل المعاصي والغفلة قد يدفع به البلاء عن الناس كلهم.

فكأنه يحميهم ويدافع عنهم؛ وقد قال بعض السلف: "ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس".

 

ورأى بعض المتقدمين في منامه من ينشد ويقول:

لولا الذين لهم ورد يصلونا

وآخرون لهم سرد يصلونا

لدكدكت أرضكم من تحتكم سحرًا

لأنكم قوم سوء ما تطيعونا

 

ب‌- أنه شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله:

والأعمال ترفع إلى الله على ثلاثة أحوال:

أولًا: رفع يوميٌّ:

ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون))؛ [البخاري 555، مسلم 632].

 

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: ((قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور - وفي رواية أبي بكر: النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)).

 

وكان الضحاك يبكي آخر النهار ويقول: لا أدري ما رُفع من عملي اليوم.

 

ثانيًا: رفع أسبوعي:

ففي سنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تُعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم))؛ [الترمذي 747، وصححه الألباني].

 

وكان إبراهيم النخعي يبكي إلى امرأته يوم الخميس وتبكي إليه، ويقول: اليوم ترفع أعمالنا إلى الله عز وجل.

 

ثالثًّا: رفع سنوي:

وهو المقصود في حديث أسامة هذا.

 

المسألة السادسة: صيام النصف الثاني من شعبان.

ورد حديث عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا حتى رمضان))؛ [وقد اختلف في تصحيح هذا الحديث وتضعيفه، صححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والطحاوي، وابن عبدالبر].

 

وضعفه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم، وقالوا: هو حديث منكر؛ منهم: عبدالرحمن بن مهدي، والإمام أحمد، وأبو زرعة الرازي، والأشرم.

 

واختلفوا في العمل به:

قال الطحاوي: هو منسوخ، وحكى الإجماع على ترك العمل به، وأكثر العلماء على أنه لا يعمل به.

 

وأخذ به آخرون؛ منهم الشافعي وأصحابه، ونهوا عن ابتداء التطوع بالصيام بعد النصف من شعبان لمن ليس له عادة، ووافقهم بعض المتأخرين من الحنابلة.

 

 

وعللوا النهي بالآتي:

• خشية أن يزاد في صيام رمضان ما ليس منه، وهذا بعيد جدًّا فيما بعد النصف، وإنما يحمل هذا في التقدم بيوم أو يومين.

 

• للتقوِّي على صيام رمضان خشية أن يضعفه عن صيام شهر رمضان، ويرد هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم أكثر شعبان ويصله برمضان؛ [لطائف المعارف 136].

 

 

المسألة السابعة: صيام يوم النصف من شعبان:

وهو غير منهي عنه، فإنه من جملة الأيام البيض الغر المندوب ص