جمالية العطاء
سبحان الله المعطي القائل : فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل: 5- 7]،والقائل أيضا سبحانه : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7]. ,و يقول كذلك عز وجل في مَدحِه الأَنصَارِ: ? وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ?[الحشر: 9]
وصلى الله وسلم على رسولنا وقدوتنا الجواد الكريم ذي الخير العميم من قدَّم أروعَ صور البذل والعطاء, يقول جابرٌ – رضي الله عنه -: “ما سُئِل رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – شيئًا قطُّ فقال: لا، سألَه رجلٌ غنَمًا بين جبلَيْن فأعطاه إيَّاها”، وبلغَ من عطائه: أنه أعطى ثوبَه الذي على ظهره، ومن عطائه لأمَّته: أنه سخَّر حياتَه لها نذيرًا وبشيرًا قائلاً: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46]. في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ: "لا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ".متفق عليه.
والعطاء قيمة رفيعة وخلق عظيم وصفة كريمة من صفات الإنسان الإيجابي ذي اليد العليا التي تجود بما منحها الله من عطايا لا تحصى , والعطاء يساعد على زيادة الترابط بين الناس ويثبت أواصر الأخوة والمحبة والألفة بينهم, ويطرد مشاعر النفور والكراهية والبغض بينهم, ولو وقفنا قليلا عند هذه القيمة ,قيمة العطاء لوجدنا أن بها بنيت البيوت و الأوطان وبه حققت النجاحات والانتصارات وبها اسمرت العلاقات وتوطدت ...
يروى في أساطير الصين: أن شيخاً أراد أن يعرف الفرق بين السعداء والتعساء، فذهب وسأل أحد الحكماء قائلاً: هلا أخبرتي ما الفرق بين السعداء والتعساء؟.. قاده الحكيم إلى قصر كبير، فما أن نزلا إلى البهو حتى شاهدا أناساً كثيرين.. تمتد أمامهم الموائد العامرة بأطايب الطعام، وكانت أجسامهم نحيلة، وتبدو على سماتهم علامات الجوع، كان كل منهم يمسك بملعقة ضخمة طولها أربعة أمتار، لكنهم لا يستطيعون أن يأكلوا، فقال الشيخ: هؤلاء هم التعساء. ثم قاده إلى قصر آخر يشبه القصر الأول تماماً، وكانت موائده عامرة بأطايب الطعام، وكان الجالسون مبتهجين، تبدو عليهم علامات الصحة والقوة والنشاط، وكانت في يد كل منهم ملعقة ضخمة طولها أربعة أمتار أيضاً، فما أن رآهم الشيخ حتى صرخ قائلاً: هؤلاء هم السعداء.. ولكنني لم أفهم حتى الآن ما الفرق بين هؤلاء وأولئك؟.. فهمس الحكيم في أذنيه قائلاً: السعداء يستخدمون نفس الملاعق... لا ليأكلوا بل ليطعم بعضهم بعضاً..
ما أكثر الذين يبحثون عن السعادة ويصرفون ملايين الدراهم في ذلك بل ويكدون ويتعبون ويجوبون الأرض طولا وعرضا لتحقيق هذا المبتغى الغالي النفيس ؟ لكن القليل يعرف الطريق المجربة السالكة لتحقيق هذا المطلب العزيز ؟.
بلى لتجلب السعادة إلى نفسك لابد أن تعطي مفيدا أو بذل خيرا إلى غيرك سواء كان ماديا أو معنويا دون أن تنتظر منه جزاء أو شكورا . فبالعطاء تستطيع أن ترى سعادتك مرسومة في وجوه الآخرين الذين أعطيتهم فتفتحت أساريرهم وتنورت وجوههم، بلى إننا نسعد من خلال ابتسامة الطفل الصغير والشيخ الكبير، والمريض المتعب واليتيم المرعب، نفرح ونبتهج من خلال دعوات صادقات من فقير معوز أو من محتاج منهك أو من أرملة مثقلة بالعناء...
فالعطاء لغة راقية ومنهج رفيع في الحياة وجنة وارفة الظلال لا يعرفها الشحيح والأناني والحقود...
العطاء حديقة عناء ذات أزهار فواحة يصيبك عطرها وأريجها قبل الآخرين, وذات ثمار لذيذة تغذيك من أطايبها قبل الآخذين...
العطاء هو الذي يجعلك تشعر بالسعادة حينما تعطي الآخرين بحرية دون إرغام أو إكراه . فالباحثون والدارسون والمهتمون يؤكدون أن الإنسان الذي يعطي يشعر بالسعادة أكثر من الذي يأخذ بأضعاف ...
وأبواب العطاء واسعة ومتنوعة؛
فيكون العطاء بالعفو عمَّن ظلمَك، والتجاوُز لمن أساء إليك، وصِلَة من قطعَك وبالإعراض عن كل جاهل، وقَبولِ عُذر المُعتذِرين، وعثرَة العاثِرين، والتنازُلُ عن بعض حقوقِك...
والعطاء يكون للأهل والأقارب أولا وللمُسلمين ثانيا، بل ويكون للبشرية جمعاء فنحن الرحمة للعالمين ...
والعطاءُ بابه مشرع يكون لكل فئات المجتمع وطبقاته ، وهو يسير لمن يسره الله له؛فقد يكون بالابتسامة الصادقة والزيارة الغادقة، يكون بالكلمةٌ الطيبةٌ والنفقة المناسبة، يكون بالدواءُ والثناء والدعاء...
ويكون العطاء بفكرةٌ نافعةٌ تُهدِيها في العمل أو المؤسسة أو الجمعية أو المجتمع ككل، ويكون بالمالٍ أو المعرفة أو الخبرة ,ويكون بالجاهٍ، والوقت والشفاعةٍ، ويكون بالجسَدٍ من خدمةٍ وإماطةِ أذى ومشيٍ في مصالِحِ الناس...
وأغلى عطاء يكون بالجود والتضحيةٍ ببذلِ النفسِ في سبيلِ الله أو في الدفاع عن الأهل والوطن .
ولكي تجني ثمار عطائك في الدنيا ويربيه الله تعالى لك يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون,يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، فلابد لك من عطاء خالص من الشوائب والدخن,عطاء لا حظوظ للنفس فيهمن رياءَ، سُّمعَةَ، مَنِ، كسل، وأذى.
بلى إن كلُّ واحدٍ منا قادرٌ على العطاء، يخدُم أهله ووطنه و أمَّتَه بقولِه وفعلِه ... وعلينا أن نطرد الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل من حياتنا لأنها من عوائِقَ العطاء ,وقد استعاذَ منها رسولُنا – صلى الله عليه وسلم بقوله : « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَقَهْرِ الرِّجَالِ»[ أبو داود ].
فأنت أيها الإنسان حينما تعطي تحقق إنسانيتك وتؤكدها وتعلن عنها , فتشعر بالفرح والنشوة والمرح، مما يحفزك ويجعلك تستمر في العطاء بطرق عدة ومتنوعة بما تيسر لك، تكرر ذلك مرارا حتى تتكرر لديك تلك المشاعر الإيجابية المريحة للنفس والمرفهة عن الذات، فتتخلص من ضغوطك وتزيلها, وتطرد السلبية من حياتك وتبعدها، فيحسن مزاجك وترتاح نفسك وتكون على أتم الاستعداد لتتعلم وتتربى على جميل الخلق وطيب القيم وحسن الفعال, وفق معادلة مترابطة ماتعة :
العطاء = الفرح والنشوة والرفاهية =الارتقاء في سلم الإنسانية والخيرية
وفي الختام أيها الإنسان داوِم على العطاء ولو كان قليلاً؛ فقليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطِع، فالعطاء المستمر يجعل القطرةُ الدائمةُ تُصبِحُ سيلاً عظيمًا، ويجعل الكلمة المتتالية كتابا، فقد ثبَتَ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (أحبُّ الأعمال إلى الله أدومُها وإن قلَّ)، و إِنّنَا مَهْمَا نُعْطِ مَن حَولَنَا، وَنَحتَسِبِ الأَجرَ فِي إِسعَادِ الآخَرِينَ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ في الحَقِيقَةِ أَخذٌ لأَثمَنِ وأغلى مَا عِندَ أُولَئِكَ مِن خَالِصِ دُعَائِهِم وَصَادِقِ ثَنَائِهِم،وَمَحَبَّةِ قُلُوبِهِم وَرِضَا نُفُوسِهِم، وَقَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ نَنَالُ مَحَبَّةَ الرَّحمَنِ وَدُخُولَ الجِنَانِ التي هي دار السلام مبتغى كل من يعطي بإخلاص وصواب.
فأنت في الحياة تسمو بقدر ما تعطي لا بقدر ما تأخذ/ خليل تقي الدين.
|