تمت الإضافة بتاريخ : 14/02/2022

الأعمال الاجتماعية النافعة عبادة

يوسف عبدالله القرضاوي

الإسلام فسح مجال العبادة ووسع دائرتها، بحيث شملت أعمالًا كثيرة لم يكن يخطر ببال الناس أن يجعلها الدين عبادة وقُربة إلى الله.

 

إن كل عمل اجتماعي نافع يعده الإسلام عبادة من أفضل العبادات ما دام قصد فاعله الخير، لا تصيد الثناء واكتساب السمعة الزائفة عند الناس. كل عمل يمسح به الإنسان دمعة محزون، أو يخفف به كربة مكروب، أو يضمد به جراح منكوب، أو يسد به رمق محروم، أو يشد به أزر مظلوم، أو يقيل به عثرة مغلوب، أو يقضي به دين غارم مثقل، أو يأخذ بيد فقير متعفف ذي عيال، أو يهدي حائرًا، أو يعلم جاهلًا، أو يؤوي غريبًا، أو يدفع شرًّا عن مخلوق أو أذى عن طريق، أو يسوق نفعًا إلى ذي كبد رطبة - فهو عبادة وقربة إلى الله؛ إذا صحت فيه النية.

 

أعمال كثيرة من هذا النوع جعلها الإسلام من عبادة الرحمن، وشعب الإيمان، وموجبات المثوبة عند الله.

 

فليست الصلاة أو الصيام أو الذكر والدعاء هي التي تكتب لك عبادة في يومك وتستوجب بها الأجر عند ربك. كلا... إنك تستطيع في اليوم الواحد أن تضيف إلى ميزان عبادتك وحسناتك أشياء كثيرة، لها ثقلها وقيمتها في تقدير الحق تبارك وتعالى، وإن بدت عندك هينة خفيفة في الميزان.

 

من ذلك ما قاله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم عن الإصلاح بين المتخاصمين؛ قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصداقة؟» قالوا: بلى...

 

قال: «إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة»(1)، وفي رواية: «لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين»(2).

 

ويقول عليه السلام في عيادة المريض، وما لها من مكانة عند الله لما فيها من تخفيف ومواساة: «من عاد مريضًا ناداه مناد من السماء: طبت، وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلًا»(3)، «من عاد مريضًا لم يزل يخوض في الرحمة حتى يجلس، فإذا جلس اغتمس فيها»(4).

 

ويروي لنا النبي صلى الله عليه وسلم مشهدًا من المشاهد البديعة العميقة يوم القيامة في صورة حوار بين الله وعباده: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني!! قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟! يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي»(5).

 

ويروي الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك فأخره فشكر الله له، فغفر له»(6)، وفي رواية مسلم: «مر رجل بغصن شجرة على ظهر الطريق، فقال: والله، لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم... فأُدخِلَ الجنة»(7).

 

وعن أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليَّ أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها: الأذى يُماط عن الطريق»(8).

 

والإسلام لا يستحب هذه الأعمال ويحمدها فحسب، بل هو يدعو إليها، ويحث عليها، ويأمر بها، ويجعلها من الواجبات اليومية على المسلم، التي تُقربه إلى الجنة، وتُبعده عن النار، وهو تارة يسميها: «صدقة» وطورًا يسميها: «صلاة»، وهي على كل حال عبادة وقربة إلى الله الكريم.

 

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ينجي العبد من النار؟ قال: «الإيمان بالله».

 

قلت: يا نبي الله... مع الإيمان عمل؟

 

قال: «أن ترضخ مما خَوَّلك الله - أي تعطي مما ملكَك الله- ».

 

قلت: يا نبي الله، فإن كان فقيرًا لا يجد ما يرضخ؟

 

قال: «يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر».

 

قلت: فإن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟

 

قال: «فليعن الأخرق» «هو الجاهل الذي لا يعرف صنعة، يعينه على تعلم صنعة».

 

قلت: يا رسول الله، أرأيت إن كان لا يحسن أن يصنع؟

 

قال: «فليعن مظلومًا».

 

قلت: يا نبي الله، أرأيت إن كان ضعيفًا لا يستطيع أن يعين مظلومًا؟!

 

قال: «ما تريد أن تترك لصاحبك من خير؟! ليمسك أذاه عن الناس».

 

قلت: يا رسول الله، أرأيت إن فعل هذا يدخل الجنة؟

 

قال: «ما من مؤمن يطلب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة»(9).

 

بمثل هذه الروح يستحث نبي الإسلام كل مسلم - وإن يكن محدود الاستطاعة - أن يؤدي هذه العبادة أو «الضريبة» الاجتماعية. ولم يجعل الإسلام هذه العبادة موقوتة بزمان أو مرهونة بمكان، كما لم يجعل هذه العبادة أو الضريبة مالية فينفرد بها الأغنياء، ولا بدنية فيختص بها الأقوياء، ولا ثقافية فيتميز بها المتعلمون، ولكنه جعلها ضريبة إنسانية عامة، يؤديها كل إنسان على قدر طاقته، يشترك فيها الفقير والغني، والضعيف والقوي، والأمي والمتعلم.

 

وإننا لنقرأ أحاديث النبي الكريم في هذا الباب، فنرى أنه لم يكتف بفرض هذه العبادة العامة على الإنسان من حيث هو إنسان فحسب، بل يشتد في طلبها، فيفرضها على كل ميسم من مياسمه، أو كل مفصل من مفاصله. فيروي أبو هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل سُلاميّ من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الاثنين صدقة. ويعين الرجل في دابته، فيحمله أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة, ويميط الأذى عن الطريق صدقة»(10).

 

ويروي ابن عباس نحو هذا، عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ يقول: «على كل ميسم من الإنسان صلاة كل يوم»! فقال رجل من القوم: هذا من أشد ما أنبأتنا به! قال: «أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صلاة، وحملك عن الضعيف صلاة، وإِنحاؤك القذر من الطريق صلاة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صلاة»(11).

 

ونحو ذلك ما رواه بريدة عنه صلى الله عليه وسلم قال: «في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة»، قالوا: فمن يطيق ذلك يا رسول الله؟ - ظنوها صدقة مالية - قال: «النخامة في المسجد تدفنها، والشيء تنحيه عن الطريق...»(12).

 

وقد وردت أحاديث عديدة تجعل تبسم المرء في وجه أخيه صدقة, وإسماع الأصم، وهداية الأعمى، وإرشاد الحيران، ودلالة المستدل على حاجته، والسعي بشدة الساقين مع اللهفان المستغيث، والحمل بشدة الذراعين مع الضعيف، وما يدور في هذا الفلك من الأعمال، عدَّه رسول الإسلام عبادة كريمة، وصدقة طيبة.

 

وبهذا يعيش المسلم في مجتمعه ينبوعًا يفيض بالخير والرحمة، ويتدفق بالنفع والبركة، يفعل الخير ويدعو إليه، ويبذل المعروف ويدل عليه، فهو مفتاح للخير، مغلاق للشر، كما حثه النبي الكريم(13).

 

وأفق الخير والنفع الذي يعيش المسلم في دائرته ليس خاصًّا بالإنسان وحده، وإنما يتسع فيشمل كل كائن حي في الوجود حتى الطير والحيوان، فكل إحسان يسديه إليه أو أذى يدفعه عنه عبادة تقربه إلى الله، وتوجب له رضاه.

 

وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن رجل وجد كلبًا يلهث يأكل الثرى من شدة العطش، فنبضت عروق الرحمة في قلبه، وعَزَّ عليه أن يدع هذا الكلب في حرقه وشدة ظمئه، فذهب به إلى بئر، فنزع خفه، وملأه منها، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له... سمع الصحابة هذه القصة، فقالوا في عجب: أَئنَّ لنا في البهائم لأجرًا يا رسول الله؟

 

قال: «في كل كبد رطبة - أي: فيها حياة - أجر»(14).

 

وفي هذه الدائرة الرحبة من أعمال البر التي شملت الإنسان وغير الإنسان يجد المهتمون بالعبادة، الراغبون في الإكثار منها، والمهتمون بخدمة المجتمع والإحسان إلى الخلق أيضًا ما يشبع نهمهم ويتجاوب مع أشواقهم، بدل أن يحصروا في عبادات «الصوامع» وحدها وينقطعوا عن ركب الحياة.