تمت الإضافة بتاريخ : 13/02/2022

جبر الخواطر

مهدي راسم اسليم

جَبْرُ الخواطر خُلُقٌ إسلامي عظيم، يدلُّ على سموِّ نفس، وعظمة قلبٍ، وسلامة صدر، ورجاحة عقل، يَجبُر المسلمُ فيه نفوسًا كُسِرَتْ، وقلوبًا فُطِرت، وأجسامًا أُرهقَت، وأشخاصًا أرواح أحبابهم أُزهِقت، فما أجمل هذه العبادة! وما أعظمَ أثرَها!

 

ومما يُعطي هذا المصطلح جمالًا أن الجبر كلمة مأخوذة من أسماء الله الحسنى، وهو "الجبَّار"، وهذا الاسم بمعناه الرائع يُطمئِن القلب، ويُريح النفس، فهو سبحانه "الذي يجبُر الفقرَ بالغنى، والمرضَ بالصحة، والخيبة والفشل بالتوفيق والأمل، والخوف والحزن بالأمن والاطمئنان، فهو جبَّارٌ مُتَّصِفٌ بكثرة جبره حوائجَ الخلائق"؛ تفسير أسماء الله للزجاج، ص34.

 

وجبرُ النفوس من الدعاء الملازم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: ((اللهم اغفِرْ لي وارحَمني، واهْدِني واجْبُرْني وارزُقْني))؛ سنن الترمذي.

 

ومما قد يتضمَّن جبر الخواطر في القرآن الكريم:

 

قوله تعالى: ? فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ? [يوسف: 15]، فكان هذا الوحي من الله سبحانه وتعالى لتثبيت قلب يوسف عليه السلام ولجبر خاطره؛ لأنه ظُلِم وأُوذِي من أخوته، والمظلوم يحتاج إلى جبر خاطر؛ لذلك شرَع لنا جبرَ الخواطر المنكسرة.

 

ومثله قوله تعالى: ? إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ? [القصص: 85]، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أحبَّ مكةَ التي وُلِد فيها ونشأ، أُخْرِجَ منها ظُلْمًا، فاحتاج في هذا الموقف الصعب وهذا الفِراق الأليم - إلى شيء من المواساة والصبر، فأنزل الله تعالى له قرآنًا مؤكَّدًا بقسمٍ أن الذي فرض عليك القرآن، وأرسَلك رسولًا، وأمرَك بتبليغ شرعه، سيردُّك إلى موطنك مكة عزيزًا منتصرًا، وهذا ما حصَل.

 

ومثله أيضًا قوله تعالى: ? وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ? [الضحى: 5]، وانظر إلى روعة العطاء المستمر في هذه الآية، حتى يصل بالمسلم لحالة الرِّضا، فهذه الآية رسالة إلى كل مهموم ومغموم، وتسلية لصاحب الحاجة، وفَرَجٌ لكل مَن وقَع في بلاءٍ وفتنة أن الله يجبُر كلَّ قلب لجأَ إليه بصِدْقٍ.

 

وقد ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ? رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ? [إبراهيم: 36]، وقال عيسى عليه السلام: ? إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? [المائدة: 118]، فرفع يديه، وقال: ((اللهم أُمَّتي أُمَّتي))، وبكى؛ فقال الله عز وجل: ((يا جبريل، اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسَلْه: ما يُبكِيك؟))، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلمُ، فقال الله: ((يا جبريل، اذهَب إلى محمد، فقل: إنا سنُرضيك في أُمَّتك ولا نَسوؤك)).

 

نماذج عملية لجبر الخاطر:

 

ومن واقعنا العملي نماذجُ كثيرة شرَعها ديننا الحنيفُ لجبر الخواطر، وتطييب النفوس، لأجل ذلك كان من السنة تعزية أهل الميت وتَسليتهم ومواساتهم، وتخفيف الألم الذي أصابهم عند فَقْدِ ميِّتهم، وكذلك عند مشاهدة بعض الفقراء أو اليتامى شيئًا من قسمة الميراث، فمن الأفضل أن يُخصَّص لهم من المال شيء يَجبُر خاطرهم، ويسدُّ حاجتهم؛ حتى لا يبقى في نفوسهم شيء؛ قال تعالى: ? وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ? [النساء: 8]، وفي قوله تعالى: ? فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ? [الضحى: 9، 10] أجمل تطييب للخاطر، وأرقى صورة للتعامل.

 

وكان من توجيهات ربنا سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، فكما كنتَ يتيمًا يا محمد صلى الله عليه وسلم، فآواك الله، فلا تقهَر اليتيم، ولا تذلَّه، بل طيِّب خاطره، وأحسِن إليه، وتلطَّف به، واصنَع به كما تحب أن يُصنَع بولدك من بعدك، فنهى الله عن نهر السائل وتقريعه، بل أمر بالتلطُّف معه، وتطييب خاطره، حتى لا يذوق ذُلَّ النَّهْر مع ذُلِّ السؤال.

 

وقد عاتَب الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أعرض عن ابن أمِّ مكتوم، وكان أعمى عندما جاءه سائلًا مستفسرًا قائلًا: عَلِّمني ممَّا علَّمَكَ الله، وكان النبي عليه الصلاة والسلام منشغلًا بدعوة بعض صناديد قريش، فأعرض عنه، فأنزل الله: ? عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ? [عبس: 1 -4]؛ التفسير البسيط للواحدي (23 /210).

 

قال القرطبي في التفسير: "فعاتبه الله على ذلك؛ لكيلا تنكسِر قلوب أهل الإيمان"؛ تفسير القرطبي (20 /213).

 

ولا شك أن كل إنسان منا قد حفَر في ذاكرته أشخاصًا كان لهم الدور الفاعل والعمل الدؤوب بمواقف سُطِّرت وحُفِظَت؛ سواء بالقول أو الفعل، أو رسالة أو فكرة، أو كلمةِ خيرٍ جبَرت نفوسًا، وأثلجت صدورًا، فهذه المواقف تُحفَظ ولا تُنسى، كما لم يَنسَ النبي عليه الصلاة والسلام موقف المطعم بن عدي حين أدخله في جواره يوم عودته من الطائف حزينًا أسيفًا، فقال يومَ أَسْرِ أسرى بدر: ((لو كان المطعم بن عدي حيًّا، وكلَّمني في هؤلاء النَّتْنَى، لأجبتُه فيهم))؛ صحيح البخاري.

 

وكما لم ينس الإمام أحمد أبا الهيثم فكان يدعو له في كل صلاة: "اللهم اغفِر لأبي الهيثم ... اللهم ارحَم أبا الهيثم ... قال ابن الإمام له: من يكون أبو الهيثم حتى تدعوَ له في كل صلاة، قال: رجل لما مُدَّت يدي إلى العقاب، وأُخْرِجْتُ للسياط إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا أبو الهيثم العيَّار اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُرِبْتُ ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرتُ في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فاصْبِر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين"؛ مناقب الإمام أحمد؛ لابن الجوزي (450).

 

ومن جبر الخواطر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ردَّ سائلًا قطُّ، بل كان يرشد الصحابة للحل، ويَدُلُّهم على الطريق، ويُطيِّب خاطرهم؛ فقد دخل عليه الصلاة والسلام ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يُقال له أبو أمامة، فقال: ((يا أبا أمامة، مالي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟)) قال: هموم لزِمَتْني، وديون يا رسول الله، قال: ((أفلا أُعلِّمُك كلامًا إذا أنت قلتَه أذهَب الله عز وجل همَّك، وقضى عنك دَيْنَك))، قلتُ: بلى يا رسول الله؟ قال: ((قل إذا أصبحت، وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ، والحزن، وأعوذ بك من العَجْز، والكَسَل، وأعوذ بك من الجُبْن والبُخْل، وأعوذ بك من غَلَبَة الدَّيْن، وقَهْر الرجال))، قال أبو أمامة: ففعلتُ ذلك، فأذهب الله عز وجل همِّي وقضى عني ديني"؛ سنن أبي داود.

 

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه: "أنه لَمَّا سمِع قول عبدالله بن أُبي لأصحابه، وكان بمعزلٍ عن جيش المسلمين، ولم يَأْبَهوا لذلك الغلام، فقال عبدالله المنافق لأصحابه: لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، (أبلغ زيد عمَّه، وأبلغ العم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلمة خطيرة جدًّا، أرسل النبي عليه الصلاة والسلام لعبدالله بن أبي، جاء، وحلف، وجحد، قال زيد: فصدَّقَه رسول الله صلى الله عليه وسلم (وصار اللوم على زيد، كيف تنقل مثل هذا الكلام الخطير، أنت غلام لا تعلم، ماذا يترتَّب على مثل هذا الكلام)، قال زيد: فوقع عليَّ من الهمِّ ما لم يقع على أحدٍ، فبينما أنا أسير قد خفقتُ برأسي من الهم، (هذا غلام انكسر قلبُه وخاطرُه من جرَّاء ردِّ قوله، ولوم الناس له وهو صادق)؛ إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرَك أُذني، وضحِك في وجهي، فما كان يسرني أنَّ لي بها الخلدَ في الدنيا)، وهو سبب نزول قول الله تعالى في سورة المنافقون: ? يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ? [المنافقون: 8]؛ سنن الترمذي.

 

وعندما جاء فقراء المهاجرين مكسوري الخاطر، وقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نُصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقُون بفضول أموالهم، قال: ((أوليس قد جعل الله لكم ما تَصدَّقون؟ إن بكل تسبيحة صدقةً، وكلِّ تكبيرة صدقةً، وكلِّ تحميدةٍ صدقةً، وكلِّ تهليلةٍ صدقةً، وأمرٌ بالمعروف صَدَقةٌ، ونهيٌ عن منكر صدقةٌ، وفي بُضْعِ أحدكم صدقةٌ))، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: ((أرأيتُم لو وضعها في حرامٍ، أكان عليه فيها وِزْر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ))؛ رواه مسلم.

 

هذه المواقف وغيرها تدعونا للإحسان إلى الخلق، وجبر خاطرهم، فما أجمل أن نتقَصَّد الشراء من بائع متجوُّل في حَرِّ الشمس، يضطَّر للسير على قدميه باحثًا عن رزقه؛ مساعدةً له وجبرًا لخاطره! وما أروع أن نقبل اعتذار المخطئ بحقِّنا، وخصوصًا عندما نعلم أن خطأه غير مقصود وأن تاريخ صُحْبتنا معه طيب نقيٌّ، فالصَّفْح عنه ومسامحته تُطيِّب نفسَه وتَجبُر خاطره! وتبادل الهدايا بين الأقارب والأصدقاء والأحباب، من أجمل ما يُدخل الفرحة للقلب والهناء للنفس، وهي سبيل الحب، وبِساط الودِّ، وطريق الأُلْفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((تَهادَوا تحابُّوا))؛ البخاري.

 

والبِرُّ بأرقى صوره أن تشتري لوالديك ما يحتاجان وتفاجئهما بما يَفقدان؛ دون طلبٍ منهما أو سؤالٍ، بل كرم منك وتبرُّع، ففي هذا الفعل أجمل ما يُسطَّر من جبر الخواطر، وإدخال الفرح والسرور على قلوبهما، كما لا ننسى صاحب الحاجة والمسكين الذي انكسر قلبُه، وذلَّت نفسُه، وضاق صدرُه، ما أجمل أن نجعل له من مالنا نصيبًا، ومن طعامنا ولو الشيء القليل، ومن دعائنا ما نستطيع! بذلك نجبُر كسرهم، ونُطيِّب قلوبهم، ولا نُشعِرهم بالنقص، قال أحمد بن عبدالحميد الحارثي: "ما رأيت أحسن خلقًا من الحسين اللؤلؤي، كان يكسو مماليكه كما يكسو نفسه"؛ سير أعلام النبلاء (10 /544).

 

وفي هذا الزمان تشتدُّ الحاجة إلى مواساة الناس، والتخفيف عنهم وتطييب خاطرهم؛ لأن أصحاب القلوب المنكسرة كثيرون، نظرًا لشدَّة الظلم الاجتماعي في هذا الزمان، وفساد ذِمم الناس واختلاف نواياهم، ففي مجتمعاتنا ترى أن هذه مُعلَّقة لا هي زوجة، ولا هي مُطلَّقة، وهذه أرملة، وذاك مسكين، وهذا يتيم، والآخر عليه ديون وفي حالة غمٍّ وهمٍّ، وهذا لا يجد جامعةً، وذاك لا يجد وظيفة، وهذا لا يجد زوجة، أو لا يجد زواجًا، وذاك مريض، والآخر مُبْتلًى، والهموم كثيرة.

 

وتطييب الخاطر لا يحتاج إلى كثير جهدٍ، ولا كبير طاقةٍ، فربما يكفي البعض كلمةٌ مِن ذكرٍ، أو دعاء، أو موعظة، وربما يحتاج الآخر إلى مساعدة، وينقص ذاك جاهٌ، وينتظر البعض قضاءَ حاجةٍ، ويكتفي البعض الآخر بابتسامة، فعلينا أن نَجتهد بإدخال الفرح والسرور إلى قلوب إخواننا، ولا نبخَل على أنفسنا، فالصدقةُ والخير نَفْعُه يعود إليك.