تذكر النعم
علي عمر بلعجم
كثيراً ما يشكو الإنسان من سوء الحال، وضيق اليد وقلة المال، وقد يتحسر وهو يرى تقلب الذين كفروا في البلاد، ويتمنى أن لو كان مثلهم في بذخ العيش وترف الحياة وينسى نعم الله تعالى عليه بل يجحدها وينكرها ولا يراها قد ران عليه الران واستولى عليه الشيطان كما قال تعالى: ? إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ? [العاديات:6] أي لكفور بالنعمة، البخيل الجموع المنوع، وقيل هو الذي يعدد المصائب وينسى النعم. وحتى لا يقع المسلم في هذه الصفات السيئة كان لابد عليه أن يتذكر دائماً نعم الله تعالى عليه وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى كما قال تعالى: ? وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ?[ النحل:18] .
وقد أمرنا الله تعالى بتذكر نعمه وشكرها وعدم نسيانها وجحودها فقال سبحانه: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ?[ فاطر:3].
تذكروا نعم الله الجليلة عليكم، نعمه التي لا تعد ولا تحصى اذكروها بالشكر والثناء والطاعة والإنابة فهو سبحانه المنعم وحده على عباده بالرزق والعطاء ويرشدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى طريقة عملية نتعرف من خلالها على نعم الله ونشكره عليها ونحمده ولا ننكر فضله، فقال كما في الصحيحين "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم"(1).
وهذا الحديث جامع لأنواع الخير، لأن الإنسان إذا رأى من فضل عليه في الدنيا طلبت نفسه مثل ذلك، واستصغر واحتقر ما عنده من نعمة الله تعالى وحرص على الازدياد ليلحق بذلك أو يقاربه، فيعيش في غم ونكد ومكابدة لا تنتهي، وهذه حالة أكثر الناس. لكن المؤمن الحصيف الذي يأخذ بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه إذا نظر في أمور الدنيا نظر إلى من هو دونه فيها، فتتجلى له وتظهر نعم الله عليه فيشكرها ويتواضع لله ويفعل الخير ويرضى بما قسم الله له. قال الله تعالى معدداً على عباده نعمه داعياً لهم لعبادته تعظيماً له وشكراً ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[ البقرة:21-22] .
أول نعمة امتن الله بها على عباده هي نعمة الخلق والإيجاد ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ?[ البقرة:21] وإذا تأمل الإنسان نفسه وذاته سيجد لديه من النعم ما لا يستطيع عدها، هذا العقل الذي وهبه الله لك أيها الإنسان من أعظم النعم, انظر إلى من فقد عقله كيف يكون حاله؟ ثم انظر إلى ما زودك الله به من حواس السمع الذي ندرك به الأصوات والبصر الذي تدرك به الألوان والشم الذي تدرك به الروائح، واللمس الذي تدرك به خشونة الشيء أو لينه، والطعم الذي تدرك به حلاوة المأكولات ومرارتها وحموضتها، وقد امتن الله علينا بذكر هذه النعم فقال: ? قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ?[ الملك:23] وقال سبحانه: ? وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ?[النحل:78].
والمعنى أن الله تعالى جعل لكم هذه النعم وغمركم بها لتعبدوه وتشكروه وتخلصوا له العبودية.
من نعم الله على عباده أن أعطاهم البيان باللسان وبالقلم وامتن عليهم سبحانه بهذه النعمة العظيمة فقال سبحانه: ? الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ?[الرحمن:1-4] , وقال: ? اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ?[ العلق:3-5], انظر إلى الأبكم الذي لا يستطيع الكلام والتعبير والبيان عن مراده كيف يكون حاله .
ومن نعمه تعالى عليك أيها الإنسان تسويغ الطعام والتلذذ بأكله، وإخراج فضلاته من مخرجه ، تصور لو أنك عفت الطعام فلم تستسغ أكله فماذا ستفعل، وتصور لو أن الطعام حبس في معدتك ولم تستطع إخراج الأذى من بطنك كيف سيكون حالك.
إن كل ذلك يتم لك بيسر وسهولة ولذة فلا تنسى الخالق المتفضل جل وعلا، فاعبده واشكره.
ومن نعم الله على عباده أن جعلهم ينامون فيستريحون بالنوم من أذى الإعياء والتعب والنصب، وتطيب به نفوسهم، وترتاح أبدانهم قال تعالى: ? وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً?[ النبأ:9] يعني راحة لأبدانكم وتصور أيها الإنسان حالك إذا جاءك أرق وقلق فلم تستطع النوم كيف سيكون حالك في ليلة واحدة فكيف بالعمر كله .
وأجل النعم وأعظمها هذا الماء النازل من السماء أو المحفوظ في الأرض ينابيع وأنهاراً وآباراً وبحاراً، قال تعالى: ? وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ?[الأنبياء:30], وقال: ? أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ ?[ السجدة:27] , وقال: ? أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ?[الواقعة:68-69].
ومن أعظم النعم وأجلها على الإطلاق نعمة الإيمان والإسلام ونعمة القرآن والاستقامة على دين الله تعالى ونعمة الأخوة في الله حين تجتمع القلوب المتنافرة لتلتقي على حب الله ورسوله الأمم المتناحرة فتوحد الصفوف وتكون كالبنيان المرصوص، ولقد ذكر الله المؤمنين بهذه النعم العظيمة فقال سبحانه : ?وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ?[ آل عمران: 103].
اللهم اجعلنا معترفين بنعمك شاكرين لآلائك، راضين بقضائك.
أيها المؤمنون إن نعم الله علينا كثيرة جداً لا نستطيع لها عداً ولا إحصاءً، فعلينا دائماً أن نتذكر نعم الله فإذا ذكرناها عظمنا الله وكبرناه وأحببناه من كل قلوبنا لما يغذينا ويعمرنا من نعمه، وهذا التذكر لنعم الله يدفعنا إلى شكر الله تعالى، لأن العبد إذا قصر في شكر الله تعالى وأعرض يكون من الكافرين والله يقول: ? وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ?[ البقرة: 152] , وقال ? اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ?[ سـبأ: 13] والواجب علينا أن نقابل نعم الله بشكره وذكره وحسن عبادته.
ومن ذلك أن نوقن أن الله قد أنعم فأكثر لنا وأجزل وأن كل ما بنا من نعمة فمنه وحده لا شريك له فالخير بيديه والشر ليس إليه، ومن ذلك الثناء على الله عز وجل وحده وإظهار ما في القلب من حقوق هذه النعم باللسان وبالقلب فتجمع عبادتان ومن ذلك علينا إن نجتهد في إقامة طاعته تعالى فعلاً بما أمر به وكفاً واجتناباً عما نهى عنه، فإن ذلك هو الذي يقتضيه تعظيمه وشكره ولا تعظيم أعظم من امتثال الأمر واجتناب النهي.
ثم لابد أن يكون الإنسان مشفقاً في عامة أحواله من زوال نعم الله تعالى عنه، وجلاً خائفاً من مفارقتها إياه مستعيذاً بالله تعالى من ذلك داعياً بالدعاء المأثور الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك.."(2) .
ولقد وعد الله الشاكرين بالمزيد وتوعد الكافرين بالعذاب الشديد فقال ? وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ?[ إبراهيم:7].
ومن شكر نعمة الله أن ينفق الإنسان مما آتاه الله في سبيل الله تعالى، وأن يواسي منه أهل الحاجة وأن لا يدع باباً من أبواب الخير إلا أتاه.
ومن شكر نعم الله أن يظهر العبد فضل الله عليه ولا يكتم نعم الله ويجحدها ويظهر بمظهر الفقير المعدم وهو من الله في خير وسعة، ولكن دون المباهاة والإسراف.
على الإنسان أن يكثر من حمد الله وشكره في كل وقت وحين كما جاء في الحديث "من قال حين يصبح وحين يمسي اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر إلا أدى شكر ذلك اليوم"(3) وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "أفضل الدعاء لا إله إلا الله وأفضل الذكر الحمد لله"(4).
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه الأمر يَسُرُّهُ قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات" وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: "الحمد لله على كل حال"(5) .
وروى عن نبي الله داؤود عليه السلام أنه قال يا رب هل بات أحد من خلقك الليلة أطول ذكراً مني فأوحى الله إليه نعم الضفدع، وحين أمره الله بالشكر في قوله ?اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ?[ سـبأ: من الآية13] قال يا رب كيف أطيق شكرك وأنت الذي تنعم علي ثم ترزقني على النعمة الشكر ثم تزيد في نعمة بعد نعمة، فالنعمة منك يا رب والشكر منك وكيف أطيق شكرك . قال الآن عرفتني يا داؤود حق معرفتي .
ومدح الله نبيه نوحاً عليه السلام فقال عنه ? إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً?[الإسراء:3]
روي أنه إذا أكل قال الحمد لله، وإذا شرب قال الحمد لله، وإذا لبس قال الحمد لله، وإذا ركب قال الحمد لله فسماه الله عبداً شكوراً .
وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إن الله يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمد عليها.."(6) .
فاشكروا الله واحمدوه واذكروه وسبحوه وافعلوا الخير لعلكم تفلحون . وصلوا وسلموا على نبيكم.
___________________________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 4/2275,برقم: 2963, والترمذي في السنن 4/665, برقم: 2513, وابن ماجة في سننه 2/1387, برقم: 4142, وأحمد في المسند 2/254, برقم: 7442, وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة 2/400, برقم:3341.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 4/2097, برقم: 2739, وأبو داوود في السنن 1/482, برقم: 1545, والحاكم في المستدرك 1/713, برقم: 1946, والبخاري في الأدب المفرد 1/238, برقم: 685.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه 4/2071,برقم: 2692, والترمذي في السنن 5/513, برقم: 3469,وأحمد في المسند 2/25, برقم: 4785.
(4) أخرجه ابن ماجة في السنن 2/1249, برقم: 3800, وابن حبان في صحيحه 3/126, برقم: 846, والبيهقي في شعب الإيمان 4/90, برقم: 4371, وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجة 2/319, برقم: 3065.
(5) أخرجه ابن ماجة في سننه 2/1250, برقم: 3803, والحاكم في المستدرك 1/677, برقم: 1840, والطبراني في المعجم الأوسط 7/109, برقم: 6999, وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة1/530, برقم: 265, وفي صحيح ابن ماجة 2/319, برقم: 3066.
(6) أخرجه مسلم في صحيحه 4/2095, برقم: 2734, والترمذي في سننه 4/265, برقم: 1816, وأحمد في المسند 3/100, برقم:11992. |