تمت الإضافة بتاريخ : 20/09/2021

سر الإلقاء الجيد

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، التقيت بشقيقتين في لندن هما السير روس والسير كيت سميث . كانا أول من استقل طائرة من لندن الى أوستراليا، وفازا بخمسين ألف دولارا، قدمتهما لهما الحكومة الأوسترالية، وأثار الحماس في المملكة البريطانية، كما منح الملك كل منهما رتبة فارس .

وقام الكابتن هرلي، المصور المشهور، بمشاركتهما جزءا من رحلتهما، حيث التقط صورا حية، ساعدتهما على تجهيز خطاب ممتع عن رحلتهما، ودربتهما على إلقائه، مرتين في اليوم، وعلى مدار أربعة أشهر، في قاعة الموسيقى في لندن، واحد يخطب بعد الظهر، وواحد في الليل .

لقد قاما بتجربة واحدة، وجلسا جنبا الى جنب في طيارتهما التي طافت بهما حول نصف العالم . وألقيا الخطاب ذاته تقريبا . ومع ذلك، لم يظهر أ، خطابيهما متشابهين أبدا .

هناك شيء ما الى جانب الكلمات المجردة في الخطاب . انه النكهة التي من خلالها يتم الإلقاء . ” ولا يعتمد الأمر كثيرا على ما تقوله مثلما يعتمد على طريقة

إلقائه “.

جلست مرة الى جانب امرأة شابة في حفل موسيقي . كانت تقرأ النوتات الموسيقية لمعزوفة ” مازوكا ” لشوبان، التي كان باديروسكي يعزفها . لم تستطع أن تفهمها فقد كانت أنامله تلامس النوتات نفسها التي لامستها أناملها حين عزفت تلك المقطوعة، ومع ذلك، كان أداؤها عاما، بينما كان أداؤه يتميز بالايحاء والسحر والجمال مما أدهش المستمعين . لم يقتصر أداؤه على النوتات المجردة التي يلامسها، بل الطريقة التي يعزف بها . ان مشاعره وفنه وشخصيته التي وصفها في ملامسته هي التي كونت الفرق بين الانسان العادي والعبقري .

وصحح برولوف، الرسام الروسي العظيم، مرة رسما لتلميذه . تطلع التلميذ بدهشة الى الرسم وقال : ” لم تلامس الا جزءا صغيرا، ومع ذلك، أصبح الرسم شيئا آخر “. أجاب برولوف : ” يبدأ الفن حيث يبدأ الجزء الصغير “. وهذا حقيقي في فن الخطابة مثلما هو حقيقي في الرسم وفي عزف باديروسكي .

والأمر ذاته صحيح عندما يلامس المرء الكلمات . هناك حكمة قديمة في البرلمان الإنكليزي تقول ان كل شيء يعتمد على الأسلوب الذي يتحدث به الانسان وليس على الموضوع بحد ذاته .

ان الإلقاء الجيد يجعل المادة الهزيلة تمضي طويلا . فقد لاحظت في المباريات الجامعية أن الخطيب الذي يتميز بأفضل مادة لا يفوز دائما، بل الخطيب الذي يستطيع أن يتكلم بشكل جيد للغاية، فتظهر مادته هي الأفضل .

قال اللورد مورلي مرة بمرح سافر : ” هناك ثلاثة أشياء مهمة في الخطاب، من يلقيه ؟، وكيف يلقيه ؟، وما الذي يقوله ؟، والشيء الأقل أهمية من بين هذه الصفات الثلاثة هي الأخيرة “.

فهل هذه مغالاة ؟ أجل، لكن امسح ظاهرها وستجد الحقيقة تشع من داخلها .

كتب ادمند بورك خطبا ممتازة جدا من ناحية المنطق والحكمة والانشاء، حتى انها تدرس كنماذج خطابية كلاسيكية في نصف جامعات أميركا، ومع ذلك، كان بورك خطيبا فاشلا، اذ لم تكن لديه القدرة على إيصال كنوزه الثمينة وإظهارها بطريقة لائقة، فأطلق عليه اسم ” ناقوس عشاء ” مجلس العموم . فعندما ينهض لإلقاء خطاب، يبدأ سائر الأعضاء بالسعال والتملص والخروج جماعات جماعات .

لذا، انتبه جيدا لطريقة إلقائك .

ما هو الإلقاء ؟

ماذا يفعل مخزن الثياب عندما يسلمك السلعة التي اشتريتها ؟ هل يلقي السائق بالرزمة في الحديقة وتيركها هناك ؟ وهل الحصول على الشيء من يدي انسان هو كاستلامه ؟ فساعي البريد الذي يحمل رسالة، يسلم الرسالة أو البرقية الى الشخص المرسلة اليه . ولكن هل يفعل ذلك جميع الخطباء ؟

دعني أقدم مثلا ينطبق على الطريقة التي يتحدث بها آلاف الناس . حدث مرة أن توقفت في موران، المنتجع الصيفي في جبال الألب السويسرية . كنت أقطن في فندق تتولى إدارته شركة لندنية، حيث ترسل عادة خطباء من إنكلترا في كل أسبوع للتحدث الى الضيوف . واحدة من هؤلاء كانت كاتبة إنكليزية معروفة، وكان موضوعها

” مستقبل الرواية “. وقد اعترفت أنها لم تختر الموضوع بنفسها، وأن ليس لديها ما تقوله بشأنه، الا أنها تهتم بما تقوله لتجعله يستحق التحدث عنه . كانت تضع بعض الملاحظات بسرعة، وتقف أمام الجمهور . كانت تتجاهل مستمعيها حتى أنها لم تكن تنظر اليهم . وفي بعض الأحيان، تحدق فوق رؤوسهم أو في ملاحظاتها، وأحيانا تحدق في الأرض . كانت تستدعي الكلمات بلفظ بدائي، وعيناها تنظران الى البعيد .

ان هذا النوع من الأداء ليس توصيلا لخطاب أبدا، بل انه استبطان ليس فيه أي صفة من صفات التواصل، وتلك هي أولى ميزات الخطاب الجيد : التواصل، يجب أن يشعر المستمع أن هناك رسالة موجهة من ذهن وقلب الخطيب الى ذهنه وقلبه . فالخطاب الذي وضعته الكاتبة، يمكن أن يلقى في غياهب صحراء ” غوبي ” الرملية . وفي الحقيقة، بدا وكأنه ألقي في بقعة مشابهة لها وليس أمام مجموعة من البشر .

ان إلقاء الخطاب هذا، هو عملية سهلة جدا معقدة جدا في الوقت نفسه . كما أن غالبا ما يفهم خطأ ويستخدم بطريقة خاطئة .

سر الإلقاء الجيد

كتبت كمية كبرى من الثرثرة والكلام الفارغ حول الإلقاء . وصيغ ذلك في قواعد وطقوس جعلت من الإلقاء أمرا غامضا . وغالبا ما وصف ” فن الخطابة ” على الطراز القديم بشكل سخيف ومقيت . فرج الأعمال يتوجه الى المكتبة، فيجد مجلدات تافهة عن فن الخطابة . ورغم التقدم في النواحي الأخرى، ما يزال الطلاب ملزمين بدراسة خطب وبستر وأنغرسول – وهو شيء قديم العهد منفصل تماما عن روح هذا العصر كالقبعات التي كانت تعتمرها اليدة أنغرسول والسيدة وبستر .

لقد انبثقت مدرسة جديدة لتدريس فن الخطابة منذ الحرب الأهلية الأميركية تمشيا مع روح العصر . لكن المنجزات الكلامية التي كانت رائجة في وقت من الأوقات، لم يعد يحتملها المستمع اليوم .

ان الجمهور الحديث، سواء كان في اجتماع عمل أو تحت خيمة، يريد من الخطيب أن يتحدث بشكل مباشر مثلما يفعل خلال جلسة سمر، وفي الأسلوب العام كالذي يستخدمه أثناء محادثة واحد منهم .

لدى انتهاء مارك توين من محاضرة ألقاها في مركز التعدين في نيفادا، اقترب منه منقب عجوز وسأله : ” هل هذه نبرتك الطبيعية في الإلقاء ؟ “.

ان هذا ما ريريده المستمع : ” نبرتك الطبيعية في الإلقاء “، ولكن بشكل مضخم قليلا .

تحدث الى أعضاء جمعية الصندوق الاجتماعي تماما مثلما تتحدث الى جون هنري سميث . فما هي جمعية الصندوق الاجتماعي، قبل أي شيء، سوى مجموعة من أشخاص يشبهون هنري سميث ؟ ألا تنجح الوسائل ذاتها التي تستخدمها معهم منفردين مثلما تنجح وهم مجتمعين ؟

لقد وصفت لتوي إلقاء الكاتبة . وفي القاعة نفسها التي تحدثت فيها، أتيحت لي فرصة الاستماع، بعد ليال قليلة، الى السير أوليفر لودج . وكان موضوعه ” الذرات والعالم “. وقد كرس له أكثر من نصف قرن من التفكير والدراسة والتجربة والتحقيق . وكان لديه شيء نابع من قلبه وذهنة وحياته، شيء يريد أن يقوله بإخلاص – وقد نسي – أحمد الله أنه نسي – أنه يحاول إلقاء خطاب . اذ أن ذلك أقل ما يقلقه . كان مهتما فقط في إخبار المستمعين عن الذرات، وإخبارنا ذلك بدقة وإخلاص . كان يحاول بصدق أن يستميلنا لنرى ما يراه هو، ولنشعر بما هو يشعر .

فما كانت النتيجة ؟ ألقى خطابا رائعا . فكان جذابا وقويا، وترك أثرا عميقا . لقد كان خطيبا ذا مقدرة غير عادية . ومع ذلك، أنا متأكد أنه لم يعتبر نفسه كذلك في تلك الليلة . وأنا متأكد أن قلة من الناس الذين سمعوه يفكرون به كخطيب .

اذا كنت تخطب أمام الناس فانك لن تستحوذ على استحسانهم الا عندما تخطب بأسلوب طبيعي لدرجة أن مستمعيك لن يحلموا أبدا بأنك تلقيت تدريبا على فن

الخطابة . فالنافذة الجيدة لا تجذب الاهتمام اليها . انها فقط تبعث النور . والخطيب الجيد يشبهها . فهو طبيعي جدا حتى ان مستمعيه لا يلاحظون أبدا أسلوبه في الإلقاء، بل هم ينصتون فقط الى مادته .

نصيحة هنري فورد

” جميع منتجات هنري فورد متشابهة تماما “، هذا ما اعتاد صانعها أن يقوله،

” لكن ما من رجلين متشابهين تماما “. فكل حياة جديدة هي شيء جديد تحت الشمس، ليس هناك ما يماثلها من قبل، ولن يولد مثلها أيضا ثانية . على الشاب أن يدرك هذه الفكرة عن ذاته، ويجب أن يتطلع الى الشرارة الوحيدة في شخصيته التي تميزه عن سائر القوم، وينمي تلك الشرارة الى المدى الذي تستحقه . ربما تحاول المدارس والمجتمع أن تنميها له، لكنها تضعنا جميعا في قالب واحد . لكنني أقول، لا تدع هذه الشرارة تضيع، فهي سبيلك الحقيقي الوحيد الى الأهمية .

هذا ضعف صحيح بالنسبة لفن الخطابة . فليس هناك أي انسان مثلك في العالم . مئات الملايين من الناس تمتلك العيون والآذان، لكن ما من أحد يشبهك تماما، وما من أحد لديه ميزاتك وطرقك وتفكيرك . فالقليل منهم يتكلمون ويعبرون عن أنفسهم مثلك عندما تتكلم بأسلوب طبيعي . وبمعنى آخر، لديك شخصيتك الفردية . وكخطيب، تمتلك أثمن هبة فتعلق بها وطورها . فهي الشرارة التي ستضع القوة والإخلاص في خطابك . وهي السبيل الحقيقي الوحيد الى الأهمية .

تحدث السير أوليفر لودج بشكل مختلف عن الآخرين لأنه كان نفسه مختلفا . فأسلوب الانسان في الكلام هو بالأساس جزء من شخصيته، تماما مثلما الحال بالنسبة للحيته ورأسه الأصلع . فلو حاول أن يقلد لويد جورج، لكان مخطئا وانتهى بالفشل .

ان أشهر المناظرات التي جرت في أميركا حدثت عام 1858 في مدن البراري في إيلليغوا، بين السيناتور أ . دوغلاس وإبراهام لنكولن . كان لنكولن طويل القامة، دميما . وكان دوغلاس قصير رشيقا . لم يكن الرجلان متشابها في شخصيتهما وتفكيرهما وأخلاقهما، مثلما كانا في مظهرهما .

كان دوغلاس رجل العالم المثقف . بينما كان لنكولن ناشر قضبان الأسيجة الخشبية، الذي يتجه نحو الباب، مرتديا جوربا قصيرا في قدميه لاستقبال زائريه . كانت حركات دوغلاس رشيقة، بينما كانت حركات لنكولن ثقيلة . كان يعوز دوغلاس روح المرح لكن لنكولن كان أعظم الروائيين . نادرا ما استخدم دوغلاس الابتسامة، بينما ناقش لنكولن دائما من خلال المقارنة ومن خلال تقديم الأمثلة . كان دوغلاس متكبرا مغرورا، الا أن لنكولنن كان متواضعا سموحا . فكر دوغلاس من خلال ومضات سريعة، لكن عمليات التفكير لدى لنكولن كانت أبطأ بكثير . تحدث دوغلاس بسرعة واندفاع الزوبعة، الا أن لنكولن كان أهدأ وأعمق وأكثر تلقائية .

ان كلا الرجلين، رغم اختلافهما، كانا خطيبين قديرين لأن لديهما الشجاعة والقدرة على أن يكونا أنفسهما . ولو حاول أحدهما تقليد الآخر . لفشل فشلا ذريعا . لكن كلا منهما، من خلال استخدام مواهبه الذاتية، جعل من نفسه فريدا وقويا . فامض أنت وافعل مثلهما .

هذا اتجاه سهل منحه . ولكن هل من السهل اتباعه ؟ كلا، بالتأكيد . ومثلما قال المارشال فوش عن فن القتال : ” انه من السهل في المبدأ، لكنه للأسف معقد في التنفيذ “.

ان ذلك يحتاج الى التدريب ليأتي الخطاب طبيعيا أمام الجمهور . الممثلون يعرفون ذلك . عندما كنت صبيا صغيرا تبلغ من العمر أربع سنوات، ربما كنت تستطيع اذا ما حاولت، أن تعتلي خشبة المسرح وتتكلم بشكل طبيعي أمام الجمهور . لكن حين تبلغ الرابعة والعشرين أو الرابعة والأربعين، ما الذي يحدث اذا ما اعتليت خشبة المسرح وبدأت في الكلام ؟ هل ستستعيد طبيعتك اللاواعية التي كنت تمتلكها في سن الرابعة ؟ ربما تفعل ذلك، لكن هناك إمكانية بأن تتصلب وتتكلف وتصبح آليا، وتنسحب داخل صدفتك كالسلحفاة .

ان مشكلة تعليم أو تدري الناس على الإلقاء ليست من المميزات الصعبة الإضافية، بل انها مسألة إزالة العوائق وتحريرهم واستدراجهم للتحدث بشكل طبيعي مثلما يفعلون اذا ما صارعهم أحد .

أوقفت الخطباء مئات المرات في منتصف خطابهم، ورجوتهم أن يتكلموا كبشر . ومئات الليالي عدت الى المنزل وقد أصبت بإرهاق ذهني وعصبي من جراء محاولتي توجيه وإجبار الناس على التحدث بشكل طبيعي . صدقني، ان الأمر ليس سهلا كما يبدو . والطريقة الوحيدة لاكتساب هذه الطبيعة هي التدريب، وفيما أنت تتدرب، اذا وجدت نفسك تتحدث بأسلوب متكلف، توقف وقل بحدة لنفسك : ” ما الأمر ؟ انتبه !

كن انسانيا “. ثم اختر واحدا من المشاهدين، أحد الجالسين في الخلف، أبشع من يمكن أن تجد، وتحدث اليه . انسى وجود سائر الموجودين . تحدث اليه . تخيل أنه سألك سؤالا وأنت تجيب . اذا وقف أو تحدث اليك، فعليك أن تجيبه، ستجعلك هذه العملية تتكلم بأسلوب أكثر محادثة وطبيعية ومباشرة . لذلك، تخيل أن هذا الذي يحدث .

يمكنك الذهاب أبعد من ذلك، لتسأل أسئلة وتجيب عليها . فمثلا، في منتصف خطابك، تستطيع أن تقول : ” تتساءل عن البرهان الذي لدي عن هذا بالتأكيد ؟ لدي دليل قاطع اليك به . . . ” بعد ذلك ابدأ بالإجابة عن هذا السؤال الخيالي . يمكن القيام بهذا الشيء بشكل طبيعي جدا . فهو يقطع الرتابة من الإلقاء، ويجعله أكثر مباشرة ومرحا .

ان الإخلاص والحماس والصدق يساعدك أيضا . فعندما يكون الانسان تحت تأثير مشاعره، تبرز ذاته الحقيقية، وتزال من أمامها القضبان . اذ أن حرارة عواطفه تحرق كل الحواجز . فيتصرف تلقائيا، ويتحدث بتلقائية . فيكون طبيعيا .