ذكر الله نور
أ.د.خالد فهمى
عن أبى هريرة رضى الله عنه ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :” ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار ، وكان ذلك المجلس عليهم ترة ” .أخرجه النسائى ، فى عمل اليوم و الليلة ص 243 (حديث رقم 408).
هذا حديث يعيد للفكرة الإسلامية بعض تمايزها عن غيرها من التصورات والأفكار ؛ ذلك أنه يفتح آفاقا للاجتماع الإنسانى الرشيد عندما يقرر أنه إذا كان الاجتماع الإنسانى ضرورة بحكم طبيعة الإنسان و طبيعة الحياة معا فإن من الخير أن يكون ذلك الاجتماع محكوما بما يرضى الله تعالى من مفتتحه إلى منتها ، وهو المعنى الضمنى الكامن وراء تركيب الحديث الشريف بالأسلوب الخبرى الدال على الأمر ، الناصح لمجموع المؤمنين ، كأنه يقول لهم : لا تجتمعوا و تتفرقوا بعد الاجتماع إلا و لزمكم ذكر الله تعالى ، ومعلوم أن العدول من الأمر إلى الإخبار لتحقيق الأمر أبلغ من الوصول إلى المراد بصيغة الأمر مباشرة، فالإخبار هنا أوسع دائرة فى عموم وصوله للمأمورين ، مخاطبين أو غائبين ، و فى هذا العدول أيضا جانب نفسى مهم يتمثل فى عدم المواجهة بالأمر ، وهو منهج تربوى يعين على إتيان الفعل من غير تكرير ، أو إخجال.
و الحديث لم يعين نوعا للذكر المأمور به ، وهو ما يعنى أن كل مجموعة من المجتمعين يلزمها حياطة اجتماعهم بذكر الله تعالى ، بأى طريق كان من هذا الذكر ، حمدا لله تعالى ، أو شكرا ، بما أثر من أحاديث حمده و الثناء عليه ، أو بشئ من الذكر الحكيم ، أو بالاجتماع و التداول وفق شرائط الشريعة ، افتتحا للمجلس ، أو إنهاء له ، وهو الأمر الذى يغطى معالجته باب من أبواب ما يعرف عن المحدثين باسم الأذكار ، أو باسم عمل اليوم والليلةوالحديث بهذا الأمر بذكر الله تعالى فى مجالس الأقوام المختلفة يسعى لضبط مجالسهم ، و ضبط نواتج هذه المجالس ؛ إذ يستبعد أن يكون مجلس ما مشمولا بذكره تعالى ثم يقع ما يحرمه الله ، أو ينتج إيقاع المظالم بالخلق ، أو التآمر على إحادث منكر ، و من ثم فإن الحديث بهذا الأمر يجعل من الذكر تدبيرا واقيا من ارتكاب الفاحشة ، التخطيط لارتكابها.
و الحديث يسعى إلى الأمر بالذكر ، أو إلى تحريم الاجتماع و التفرق من غير ذكر الله تعالى عن طريق استعارة تمثيلية ظاهرة ، فى قوله صلى الله عليه و سلم :إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار ، و هى صورة تجلب النفور لشناعتها.
الحديث يصل بعبقرية بلاغية إلى تحريم خلو المجالس من ذكر الله تعالى بما يستحضره من صورة الحمار الميت ، أو من صورة جيفة الحمار و قد قام عليها قوم أو مجموعة من الناس ، و كأنه يقرر أن الطبيعى هو إنكار ذلك المشهد تماما ؛ ذلك أنه لا يستطيع أحد أن يتحمل هذا المشهد
و العبقرية البلاغية كامنة فى ملمحين هما:
1- تمثيل جماعة الناس المجتمعين من غير ذكر الله تعالى ، بمن اجتمع ، وجلس ما شاء له أن يجتمع و أمامه جيفة حمار.
2- استعمال هذا التركيب الإضافى المؤلم :” جيفةحمار” ؛ذلك أن الحمار مثل فى الذم الشنيع و الشتيمة ” فى الثقافة العربية ، حتى وصل الأمر إلى القول بأن من العرب من لم يكن يركب الحمار استنكافا ، و إن بلغت به الرحلة الجهد” (حياة الحيوان 2/50) .
يضاف إلى ذلك أن الشريعة على سبيل الوعيد توعدت الإنسان فى بعض العقوبات بمسخ صورته و تحويلها إلى صورة حمار ، فى سياق تحريم سبق الإمام بالركوع و السجود فى الحديث المتفق عليه . و الحديث هنا لم يصور جماعات المجتمعين و تفريقهم و قد خلا أمر اجتماعهم من الذكر بأنهم مجتمعون على حمار ، و إنما على جيفة حمار ، مع ما يحمله لفظ الجيفة من بشاعة ، و اشمئزاز ، وكراهة . وهو الأمر الذى يحرم خلو الاجتماع الإنسانى من احترام الشريعة ، وجريان أمر الاجتماع على ما يوجبه ذكر الله تعالى ، و العلم عنه.
ثم يكثف الحديث أمر هذه الحرمة عن طريقة ما يسمى فى علم المعانى ببلاغة الوصل الناشئ من توظيف العطف بالواو :” وكان ذلك المجلس عليهم ترة ” و الوصل هنا حقق العديد من المعانى فى الحديث ، حقق دف التوهم ؛ أى أنه نفى أن تكون الصورة التمثيلية لمجرد تكريه الأمر المشار إليه ، و إنما أكد حرمته ؛ ذلك أن هذا الجزء من الحديث رتب الإثم على ذلك النوع من المجالس حين تخلو من ذكر الله تعالى .
وهو المعنى المفهوم من استعمال لفظة ” ترة” وهى بمعنيان ؛ هما النقص ، و التبعة والإثم ، وهو ما يعنى أن الجماعة حين تجلس هذا النوع من المجالس تأثم ، و تنقص من جهة الخير.
و قد قيد الحديث فى هذا الجزء نوع المجالس التى تجلب على الجالسين فيها الإثم و التبعة باستعمال اسم الإشارة ” ذلك ” لترتبط جمل الحديث كلها.
و من العجيب أن يستعمل الحديث فى بيان النقص اللاحق بهؤلاء – كلمة جاءت صيغتها الاسمية بنقص “الواو” التى هى فاء الفعل.
ومن هنا فإن الحديث يصل إلى مراده من تحريم أمر الاجتماع إذا فارقه ذكر الله تعالى عن طريق استثمار وسائل بلاغية متنوعة تعلم الجماهير مع مراعاة مطالب الجمال و المتعة القولية . |