تمت الإضافة بتاريخ : 07/09/2021

إيمانك بالله مصدر قوتك

فرج ابوطير

للإنسان في الحياة آمال عريضة، وأهداف قريبة وبعيدة، ولكن الطريق إليها شائك وطويل، والعقبات متنوعة، والمعوقات كثيرة، بعضها من الطبيعة وسنن الله فيها، وبعضها من البشر أنفسهم، فلا غرو أن يظل الإنسان في جهاد دائب، وعمل متواصل، ليتغلب على الآلام والمعوقات ويحقق الأهداف والآمال

وما أشد حاجة الإنسان إلى قوة تسند ظهره، وتشد أزره، وتأخذ بيده، وتذلل له العقبات، وتقهر أمامه الصعاب، وتنير له الطريق . وليست هذه القوة المنشودة إلا في ظلال العقيدة، ورحاب الإيمان بالله..

الإيمان بالله هو الذي يمدنا بروح القوة، وقوة الروح، فالمؤمن لا يرجو إلا فضل الله، ولا يخشى إلا عذاب الله، ولا يبالي بشيء في جنب الله. إنه قوي وإن لم يكن في يديه سلاح، غني وإن لم تمج خزائنه بالفضة والذهب، عزيز وإن لم يكن وراءه عشيرة وأتباع، راسخ وإن اضطربت سفينة الحياة، وأحاط بها الموج من كل مكان , فهو بإيمانه أقوى من البحر والموج والرياح , وهذه القوة في الفرد مصدر لقوة المجتمع كله، وما أسعد المجتمع بالأقوياء الراسخين من أبنائه، وما أشقاه بالضعفاء المهازيل، الذين لا ينصرون صديقاً، ولا يخيفون عدواً، ولا تقوم بهم نهضة، أو ترتفع بهم راية .

مصادر القوة عند المؤمن :

الإيمان بالله

المؤمن قوي، لأنه يستمد قوته من الله العلي الكبير، الذي يؤمن به، ويتوكل عليه، ويعتقد أنه معه حيث كان، وأنه ناصر المؤمنين، وخاذل المبطلين، (ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) (الأنفال: 49) عزيز لا يذل من توكل عليه، حكيم لا يضيع من اعتصم بحكمته وتدبيره

إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده، وعلى الله فليتوكل المؤمنون) (آل عمران: 160 )

والتوكل على الله -وهو من ثمار الإيمان- ليس استسلام متبطل، أو استرخاء كسول. إنه معنى حافز، وشحنة نفسية، تغمر المؤمن بقوة المقاومة، وتملؤه بروح التحدي والإصرار، وتشحذ فيه العزم الصارم، والإرادة الشماء، والقرآن يقص علينا كثيراً آثار هذا التوكل في أنفس رسل الله، إزاء أعداء الله

ها هم الرسل جميعاً يعتصمون بالتوكل على الله أمام عناد أقوامهم وإيذائهم { وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ إبراهيم : 12 ] – 86

الإيمان بالحق :

يستمد المؤمن قوته من الحق الذي يعتنقه، فهو لا يعمل لشهوة عارضة، ولا لنزوة طارئة ولا لمنفعة شخصية، ولا لعصبية جاهلية، ولا للبغي على أحد من البشر، ولكنه يعمل للحق الذي قامت عليه السموات والأرض، والحق أحق أن ينتصر، والباطل أولى أن يندثر { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } [ الأنبياء : 18 ]

دخل ربعي بن عامر- مبعوث سعد بن أبي وقاص في حرب القادسية- على رستم قائد جيوش الفرس، وحوله الأتباع والجنود، والفضة والذهب. فلم يبال بشيء منها، ودخل عليهم بفرسه القصيرة، وترسه الغليظة، وثيابه الخشنة، فقال له رستم: من أنت … وما أنتم؟

فقال له: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام

المؤمن بإيمانه بالله وبالحق على أرض صلبة غير خائر ولا مضطرب، لأنه يعتصم بالعروة الوثقى ويأوي إلي ركن شديد: (فمن يكفر بالطاغوت، ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) (البقرة: 256)

فليس هو مخلوقاً ضائعاً، ولا كماً مهملاً، إنه خليفة الله في الأرض، إن تظاهر عليه أهل الباطل، فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير. فكيف يضعف المؤمن أمام البشر ومن ورائه الملائكة؟ بل كيف ينحني للخلق ومعه الخالق؟ (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) (آل عمران: 173، 174)

هذا الإيمان هو الذي جعل بضعة شبان كأهل الكهف، يواجهون بعقيدتهم ملكاً جباراً، وقوماً شديدي التعصب، غلاظ القلوب، مع قلة العدد، وانعدام الحول والطول المادي (نحن نقص عليك نبأهم بالحق، إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلهاً، لقد قلنا إذن شططاً * هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة، لولا يأتون عليهم بسلطان بيِّن، فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً) (الكهف: 13 – 15)

الإيمان بالخلود :

ويستمد المؤمن قوته من الخلود الذي يوقن به، فحياته ليست هذه الأيام المعدودة في الأماكن المحدودة، إنها حياة الأبد، وإنما ينتقل من دار إلى دار وما الموت إلا رحلة غير أنها من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي

هذا عمير بن الحمام الأنصاري في غزوة بدر يسمع النبي يقول لأصحابه “والذي نفسي بيده ما من رجل يقاتلهم اليوم -المشركين- فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة” فيقول عمير: بخ بخ -كلمة تعجب- فيقول: مم تبخبخ يا ابن الحمام؟ فيقول: أليس بيني وبين الجنة إلا أن أتقدم فأقاتل هؤلاء فأقتل؟ فيقول الرسول: بلى، وكان في يد عمير تمرات يأكل منها فقال: أأعيش حتى أكل هذه التمرات؟ إنها لحياة طويلة! وألقى التمرات من يده وأقبل يقاتل ويقول : :

ركــضاً إلى الله بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد وكل زاد عرضة للنفاد

وهذا أنس بن النضر يقاتل قتال الأبطال في أحد، ويلقاه سعد بن معاذ فيقول له: يا سعد، الجنة ورب النضر: أجد ريحها من وراء أحد ! ! غير التقى والصبر والرشاد

الإيمان بالقدر :

ويستمد المؤمن قوته من القدر الذي يؤمن به، فهو يعلم أن ما أصابه من مصيبة فبإذن الله، وأن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا، وعلى الله فليتوكل المؤمنون) (التوبة: 51 ))

المؤمن يعتقد أن رزقه مقسوم، وأجله محدود، لا يستطيع أحد أن يحول بينه وبين ما قسم الله له من رزق، ولا أن ينتقص ما كتب الله له من أجل، وهذه العقيدة تعطيه ثقة لا حدود لها، وقوة لا تقهرها قوة بشر. وقد كان الرجل يذهب إلى الميدان مجاهداً في سبيل الله فيعترض سبيله المثبطون، ويخوفونه من ترك أولاده. فيقول: علينا أن نطيعه تعالى كما أمرنا، وعليه أن يرزقنا كما وعدنا.

وكان المعوقون والمخذلون يذهبون إلى المرأة فيثيرون مخاوفها على رزقها ورزق عيالها إذا ذهب زوجها إلى الجهاد، فتجيبهم في ثقة واطمئنان: زوجي عرفته أكَّالاً ولم أعرفه رزَّاقاً، فإن ذهب الأكَّال فقد بقي الرزَّاق ! ! وكان علي بن أبي طالب يخوض المعامع وهو يقول أي يومي من الموت أفر؟ يوم لا يقدر أو يوم قدر؟ يوم لا يقدر لا أحذره ومن المقدور لا ينجي الحذر

قال السيد جمال الدين الأفغاني: “الاعتقاد بالقضاء والقدر -إذا تجرد عن شناعة الجبر- يتبعه صفة الجرأة والإقدام، وخلق الشجاعة والبسالة يبعث على اقتحام المهالك التي ترجف لها قلوب الأسود، وتنشق منها مرائر النمور، هذا الاعتقاد يطبع الأنفس على الثبات، واحتمال المكاره، ومقارعة الأهوال، ويحليها بحلل الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج عن كل ما يعز عليها، بل يحملها على بذل الأرواح، والتخلي عن نضرة الحياة .. كل هذا في سبيل الحق الذي قد دعاها للاعتقاد بهذه العقيدة

الإيمان بالأخوة

وقد شبَّه النبي قوة المؤمن بإخوانه المؤمنين باللبنة في البناء المتين، فقال: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً” اللبنة وحدها ضعيفة مقدور عليها، ولكنها داخل البنيان أصبحت مرتبطة به ارتباطاً لا ينفصل، أصبحت جزءاً من (الكل) الكبير، لا يسهل كسرها، أو زحزحتها عن موضعها فإن قوتها هي قوة البنيان كله الذي يشدها إليه)

حدثوا أن جيشاً من المسلمين كان بينه وبين عدوه نهر فأمرهم القائد أن يخوضوه، ولبوا الأمر، وخاضوا النهر، والعدو يشهدهم من بعيد دهشاً مرتاعاً .. وفي وسط النهر شهدهم العدو يغوصون في جوف الماء مرة واحدة كأنما غرقوا، ثم ظهروا فجأة .. فسأل العدو ما شأنهم؟ فعرفوا أن رجلاً منهم سقط منه قعبه -إناؤه- فصاح: قعبي .. قعبي .. فغاصوا جميعاً يبحثون عن قعب أخيهم .. فقال الأعداء في ذهول: إذا كانوا يصنعون مثل هذا في قعب سقط من أحدهم. فماذا يصنعون إذا قتلنا بعضاً منهم؟؟ وفت ذلك في عضدهم، وكانت العاقبة التسليم للمؤمنين

على قدر الإيمان تكون القوة :

إن إيمان المسلم بالله الذي لا يغلب، وبالحق الذي لا يخذل، وبالخلود الذي لا ينقطع، وبالقدر الذي لا يتحول، وبالأخوة الصادقة التي لا تهن – مصادر فياضة بالقوة المعنوية التي لا يقاس إليها قوة المادة أو السلاح

وعلى قدر نصيب المرء من الإيمان يكون نصيبه من تلك القوة، نرى ذلك بارزاً في أرجح المؤمنين ميزاناً بعد رسول الله، فقد تمثلت قوته في مواقف جعلت عمر الجبار الشديد يقول: “والله لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح … “.

موقفه يوم توفي الرسول فذهل المسلمون، وأخرجتهم الفجيعة عن وعيهم، حتى روي أن عمر قال: من قال أن محمداً مات ضربت عنقه بسيفي هذا! هنالك وقف أبو بكر يؤذن في الناس بصوت جهير: “من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت …”، (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً) (آل عمران: 144) وموقفه بعد ذلك يوم تردد المسلمون في إنفاذ جيش أسامة الذي جهزه النبي إلى الشام قبل مرض موته، فقد طلبوا من أبي بكر أن يوقف مسير هذا الجيش، فإن الغد مليء بالطوارئ والاحتمالات، ولا يدرى أحد ماذا يفعل العرب في القبائل والقرى إذا علموا أن النبي قد مات .. ولكن أبا بكر أجابهم في حزم عازم وقال: “والذي نفس أبي بكر بيده … لو ظننت أن السباع تختطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته”

وموقفه في حرب المرتدين ومانعي الزكاة في الوقت الذي برزت فيه قرون العصبية الجاهلية كأنها قرون الشياطين، وكان المسلمون -بعد موت رسولهم- كالغنم في الليلة المطيرة، كما وصفتهم عائشة- وحتى قال بعض المسلمين لأبى بكر: يا خليفة رسول الله، لا طاقة لك بحرب العرب جميعاً .. الزم بيتك، وأغلق بابك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين .. ولكن هذا الرجل الخاشع البكاء، الرقيق كالنسيم، اللين كالحرير، الرحيم كقلب الأم، ينقلب في لحظات إلى رجل ثائر كالبحر، زائر كالليث، يصيح في وجه عمر: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام يا ابن الخطاب؟ لقد تم الوحي واكتمل .. أفينقص وأنا حي؟ والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه، ما استمسك السيف بيدي ! !