تمت الإضافة بتاريخ : 04/09/2021

ملامح الهجرة النبوية

د/ حامد السيد

إن حدثا يؤرخ به للأمة لحدث عظيم في تاريخها، ونقطة تحول في حياتها. . ويتطلب من هذه الأمة أن تعيد فيه النظر، وتمد إليه البصر؛ لترى من خلاله كيف تحقق لهذه الأمة مجدها، وأرست دعائم عزها في زمن قياسي بلغة التاريخ، ففي ربع قرن تدك حصون كسرى، وتحطم عروش قيصر، ولم يمض القرن حتى شرق الإسلام وغرب، ليصل بنوره إلى بقاع شتى في أنحاء المعمورة.. ويتحقق بذلك قول الله تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .

وبعد أن نضع بين يدي القارىء جانبا من وقائع الهجرة نتبعها ببعض الدروس التي يجب أن يفطن إليها كل مسلم ومسلمة.

أولا: بيعة العقبة الأولى:

الرسول - ظل في مكة يدعو إلى الله لمدة عشرة أعوام، وخلالها حاول أن ينتقل بدعوته إلى الطائف، ولكنه لم يجد منهم آذانا مصغية، فعاد مرة أخرى إلى مكة، وظل يعرض نفسه على الوفود التي تقدم بيت الله الحرام، فلما أراد الله – عز وجل – إظهار دينه، وإعزاز نبيه - وإنجاز موعده له، خرج رسول الله - في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا. فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيا مبعوث الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله - أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض، يا قوم: تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك.

ثم انصرفوا عن رسول الله - راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا . وكانوا ستة نفر من الخزرج.

فلما قدموا إلى المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله - ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله - حتى إذا كان العام المقبل خرج من الأنصار اثنا عشر رجلا، فلقوه بالعقبة، وكانت بيعة العقبة الأولى، وفيها يقول عبادة بن الصامت: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله - على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف. فإن وفيتم فلكم الجنة. وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء عذب وإن شاء غفر.

ثانيا: بيعة العقبة الثانية:

ثم رجع هؤلاء النفر إلى المدينة وأرسل الرسول - معهم مصعب بن عمير ? وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفهمهم في الدين فكان يسمى المقرىء بالمدينة. . وعمل الجميع على نشر الإسلام بالمدينة، وفي ذلك يقول جابر بن عبد الله ?: “لم تبق دار من دور الأنصار، إلا وفيها رهط من المسلمين، يظهرون الإسلام. ثم ائتمروا جميعا، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله - يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا، حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين، حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟.

قال: “تبايعونني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة “.

فقمنا إليه وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم وفي رواية البيهقي: وهو أصغر السبعين، إلا أنا، فقال: رويدا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل، إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم، وتعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة، فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذركم عند الله قالوا: أبط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة، ولا نسلبها أبدا.. . !!

قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة.. والروايات الصحيحة أن عدد من شهد العقبة كان ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين.

ثالثا: الإذن بالهجرة:

وبعد هذه البيعة أمر رسول الله - أصحابه بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: إن الله – عز وجل – قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها. فخرجوا أرسالا وأقام رسول الله - بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الهجرة إلى المدينة. .

وفي الليلة التي تآمرت فيها قريش على قتله وتجمعت حول بيته للتخلص من الدعوة وصاحبها جاءه الإذن بالهجرة.

فعن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – أنها قالت: كان لا يخطىء رسول الله - أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله - في الهجر، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله - بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها: قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله - في هذه الساعة إلا لأمر حدث. قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله - وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله - أخرج عني من عندك. فقال: يا رسول الله، إنهما ابنتاي، وما ذاك؟ فداك أبي وأمي! فقال: إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة. قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله. قال: الصحبة. قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا يكر يومئذ، ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا. فاستأجر عبد الله بن أريقط وكان مشركا يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.

ولم يعلم، بخروج رسول الله - أحد، حين خرج، إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر، أما علي فإن رسول الله - فيما بلغني اخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة لينام مكانه، وحتى يؤدي عن رسول الله - الودائع، التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله - ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته -.

رابعا: من قام بشأن الرسول - في الغار:

فلما أجمع رسول الله - الخروج، أتى أبا بكر بن أبي قحافة، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بثور – جبل بأسفل مكة – فدخلاه، ومكث رسول الله - في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة، لمن يرده عليهم، وكان عبد الله بن ابي بكر يكون في قريش نهاره معهم، يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله - وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر. وكان عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر رضي الله عنه، يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر، فاحتلبا وذبحا، فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة، اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم، حتى يعفى عليه، حتى إذا مضت الثلاث، وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيرهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما – بسفرتهما، وليس لها عصام، وهو الحبل يشد على فم المزادة. فشقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر. فسميت بذات النطاقين لذلك.

خامسا: راحلة الرسول -:

لما قرب أبو بكر - الراحلتين إلى رسول الله - قدم له أفضلهما، ثم قال: اركب، فداك أبي وأمي، فقال رسول الله - : إني لا أركب بعيرا ليس لي، قال: فهي لك يا رسول الله، بأبى أنت وأمي، قال: لا. ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ قال: كذا وكذا، قال: قد أخذتها به، قال: هي لك يا رسول الله. ركبا وانطلقا وأردف أبو بكر الصديق ? عامر بن فهيرة مولاه خلفه ليخدمهما في الطريق .

ثم كانت أحداث ووقائع، لم نرد سردها لعلم القاريء بها، وبعضها قد يأتي في سياق الدروس.

الدروس والعبر:

1 – الهجرة إعداد وتخطيط:

إن الهجرة النبوية كانت ولا زالت درسا في التخطيط والإعداد والتنظيم، فالنبي - بعد بيعتي العقبة الأولي والثانية، والتأكد التام من تهيئة الأرض الجديدة لاستقبال الفئة المستضعفة المعذبة في مكة، قال رسول الله - لأصحابه: إن الله – عز وجل – قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها. فخرجوا أرسالا وأقام رسول الله - بمكة ينتظر أن يأذن له ربه.

وفي الليلة التي تآمرت فيها قريش على قتله، جاءه الإذن بالهجرة، وأخبر بذلك الصديق، فأعد الراحلة، واستأجر دليلا خبيرا بالصحراء، وأمر عليا أن ينام مكانه ومن إحكام التخطيط الترتيب الدقيق للجهاز الذي يمدهم في الغار بالزاد والأخبار عن قريش، ثم من يقوم بإخفاء الآثار ومعالم الأقدام حتى لا تهتدي قريش إلى مكانهم.

2 – الصبر والتضحية سلاح الدعاة:

واجب الدعاة التأسي بالرسول - في الصبر على الدعوة والتضحية في سبيل إرشاد الناس إلى الخير، وعدم اليأس حين يلقى المسلم من الناس صدودا وإعراضا، فالهداية قدر الله لمن شاء من عباده: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين .

والمسلم وهو يعمل في الدعوة إلى دين الله وتعريف الناس بالإسلام عليه أن يعلم أن هذه العملية تتكون من شقين:

أ – جهد بشري. .

ب – قدر إلهي.

وواجبنا أن ينتهي دورنا عند بذل الجهد البشري في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة التي أمرنا بها المولى، ثم ندع للقدر الإلهي يصطفي من يشاء من عباده، لحمل دينه ورسالته.. وإن كان من واجب أن ينتقي من الناس الأخيار ليوجه لهم الدعوة ابتداء، ثم يدع أمر الهداية لله، فقد يسوق له من يحمل الرسالة، ويستجيب للدعوة أناس لم يفكر في أمرهم، ولم يتوجه إلى ديارهم. . .

نلمح ذلك المعنى جليا في سيرة رسول الله - حيث ظل يدعو أهل مكة، ثم تحرك بالدعوة إلى الطائف، فلما رفضوا دعوته، ساق الله نفرا من المدينة، وفتح قلوبهم للدعوة مع أول لقاء، ليتحولوا بعد ذلك إلى دعاة مخلصين لهذا الدين، فعرفوا قومهم بالإسلام ودعوهم إليه، حتى فشا فيهم، ولم تبق دار من دور الأنصار، إلا وفيها ذكر من رسول الله -.

لقد استطاع النفر الستة أن يبشروا بهذا الدين الجديد، والنبي الخاتم، حتى أضحى ذلك القضية الهامة، التي تشغل كل بيت، ومحور الحديث في كل مجلس. .

وهكذا شأن كل دعوة لا بد لها من تعريف بها أولا. ويثمر هذا التعريف الإيمان بها واعتناقها، ولذلك في العام التالي مع مواصلة الدعوة، والصبر عليها، لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام.

3 – الهجرة جهد بشري وقدر إلهي:

وكذلك الهجرة النبوية كانت تخضع لنفس المعيار السابق:

جهد بشري: البحث عن رفيق الطريق، والراحلة والدليل الخبير بالصحراء، ووسائل التمويه من اختفاء بالغار مدة الطلب وترتيب جهاز الإمداد بالطعام والأخبار ومن ينام مكانه.

قدر إلهي: يضرب بالنوم على آذان من تجمعوا حول داره ليقتلوه ويخرج من بينهم فلا يبصرون، بل ويحثو على رؤوسهم التراب فلا يشعرون.. ويقفون على باب الغار ولا يلجونه لأنها في حمى الله ويتجلى ذلك في قول الرسول -: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما. وقد حكاه القرآن الكريم: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها .

وكذلك تعثر سراقة بفرسه والحيلولة بينه وبين اللحاق بالرسول ـ ص ـ وصاحبه.

4 – المسلم مطمئن لمعية الله:

والمعاني السابقة تتجلى من خلال التأمل في مثل هذه التساؤلات:

أليس الله كان يعلم بتآمر قريش على رسوله - فلماذا لم يأذن له بالهجرة، قبل الليلة الموعودة، فيما بينهم، وقبل أن يحاط بالبيت؟

وأيضا الله – عز وجل – أسرى بعبده من مكة إلى الشام ثم صعد به إلى السماء في لحظات، فلماذا لم ينقل نبيه بالبراق ويجنبه آلام وشدائد الطريق؟

ثم ألم يكن الله قادرا على أن يصرفهم عن الغار، فلا يصلون إليه كما صرفهم عن النظر إليه؟

إن في ذلك تشريع ورسم الطريق لحملة الدعوات، وأنها طريق محفوفة بالصعاب، مملوءة بالأشواك، وعلى السالك لها أن يوطن النفس علي تحملها، محتسبا كل ما يلقاه في سبيل الله، وله على ذلك أجر عظيم وثواب جزيل، وأسوته وقدوته في ذلك أحب الخلق إلى الله رسول الله محمد -.

كما أن عليه عند المواجهة أن يكون ثابت الفؤاد، رابط الجأش، مطمئن القلب، وأنه في معية الله، وأن الله لا يخذل عبدا ارتكن إليه، ولا يتخلى عن مسلم احتمى به، وأسوته في ذلك رسول الله - وهو يطمئن صاحبه: إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا .

وهذا هو بعينه ما حكاه القرآن الكريم عن موسى – عليه السلام – حين كان العدو من الوراء والبحر من الخلف: فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربي سيهدين. فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصال البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم. وأزلفنا ثم الأخرين. وأنجينا موسى ومن معه أجمعين . ثم أغرقنا الآخرين .

5 -لم تكن الهجرة فرارا ولا طلبا للراحة:

لم تكن الهجرة فرارا من الشدائد والآلام بمكة، ولا بحثا عن الراحة والدعة بالمدينة، ولا طلبا للدنيا وحطامها، ولكنها أولا وقبل كل شيء استجابة لأمر الله ورسوله، وطلبا لمرضاة الله ونصرة لدينه: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون .

لقد كان الباعث الحقيقي هو النور الإلهي الذي ملأ قلوبهم وحياتهم، وغير أنفسهم وعقولهم، ونقلهم إلى محيط الإيمان الذي حررهم من العبودية للمال والعبودية للدنيا، والعبودية للأرض. ، وحررهم من حظوظ النفس ورفعهم فوق الشهوات، ثم ضيق أهل مكة من هذا النور وحملته، فدفع ذلك بهم إلى ترك أموالهم وأولادهم وأوطانهم، وخوض غمار المجهول بالتحول إلى ديار لم يكن لهم بها سابق عهد. .. لا فرارا من العنت والمشقة في مكة ولكن لمواصلة مسيرة الجهاد والتضحية…

6 – الهجرة جهاد وتضحية:

لقد كانت الهجرة مليئة بالجهاد والتضحية في سبيل الله، وكيف لا، وقد كان منهم ترك داره وماله كصهيب، فلما وصل المدينة استقبله الرسول - بقوله: “ربح صهيب، ربح صهيب .

كما كان منهم من فرقت الهجرة بين وبين زوجه وولده كأبي سلمة، وظلت زوجه لمدة عام تبكي حتى جمع الله شملهم بعد عام .

نعم لقد كانت الهجرة مرحلة جديدة من الجهاد والتضحية في سبيل الله، وكان لهم من الأجر عند الله بقدر ما كانوا عليه من إخلاص النية: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه” .

7 – المرأة المسلمة ودورها العظيم في صنع التاريخ:

كان للمرأة في هذا الحدث العظيم دور كبير ومهمة عظيمة، حيث كان لها دور في التمهيد للهجرة، فكانت ممن بايع على النصرة والدفاع عن الرسول - وقد وفت بيعتها، وما خبر نسيبة بنت كعب عنا ببعيد. . كما وقفت على سر الهجرة، وشاركت في الإعداد لها.

فحين أراد الرسول - أن يخبر أبا بكر ? بأمر الهجرة قال له: أخرج عنا هاتين، فإذا أبو بكر يقول: إنما هما ابنتاي، وكأن أبا بكر بذلك يقول: لا تخف منهما، فلديهما من الشجاعة والكتمان والفطنة ما لا يدع لهذه المخاوف مكان.

وصدق أبو بكر ? حيث أتى أبو جهل لأسماء ؛ ليعرف مكان المهاجرين فأنكرت، وتأبت عليه، مما أغضبه، ودفعه إلى أن يلطمها، فتتحمل ولم تضعف.

ولما جاء جدها ليطمئن عليهم، تحايلت عليه، ووضعت حجارة، وغطتها، وقالت له: لقد ترك لنا أبونا مالا كثيرا، وامسكت بيده – وكان كفيفا – ووضعتها على هذه الحجارة، ولما جهزت الزاد لرسول الله - وأبيها، ولم تجد ما تعلق به السفرة، شقت نطاقها، فربطت بنصف، وانتطقت بالآخر، فسميت بذات النطاقين .

ولعل في ذلك حجة دامغة على الذين يقولون: إن الإسلام أهمل المرأة، أو انتقصها حقها، أو حرمها من المشاركة في صنع التاريخ. . .

إن على المسلمة أن تلم بتاريخ المسلمات الأوائل، وأن تسير على دربهن، وأن تكون على مستوى الحدث الذي تعيش فيه في ظل النظام العالمي الجديد، وتقف على ما يحاك حولها من مؤامرات، وينسج لها من شباك لصيدها، والإلقاء بها في حمأة الحضارة، التي لم تبق للمرأة شيئا عزيزا إلا وسلبته، ولم تترك دنية ومهانة إلا وأردتها فيها.

إنها بذلك يتسنى لها أن تشارك في صنع التاريخ، كما شاركت أسماء ونسيبة وأم سلمة، وأم حرام، ومن قبلهن أم المؤمنين خديجة، وغيرهن كثير – رضي الله عنهن أجمعين.

8 – ليس في الإسلام استحلال لأموال غير المسلمين ولا دماءهم:

إن في أمر النبي - لعلي بن أبي طالب ? أن ينام مكانه في ليلة الهجرة، وأن يمكث بمكة، حتى يرد الودائع التي كانت لدى رسول الله - أعظم دليل دامغ لهؤلاء الذين يستحلون أموال غير المسلمين، بل وأموال المسلمين الذين يخالفونهم الرأي، ويفعلون ذلك باسم الإسلام، ولو كان ذلك جائزا في الإسلام لجاز لرسول الله - التي أهدرت قريش دمه ودفعوه لأن يترك وطنه وداره.

لكن الرسول - يحفظ عليهم أموالهم ويعمل على رد الأمانات إلى إهلها، وليس ذلك خاصا بالرسول - ولا بالمسلمين، ولكنه حكم الإسلام العام الذي يأمر به الله في قوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.. .

وعن يوسف بن ماهك المكي - قال: كنت أكتب لفلان نفقةَ أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم فأدّاها إليهم، فأدركت لهم من مالهم مِثليها، قال: قلت: أقبض الألف الذي ذهبوا به منك ؟ قال: لا؛حدثني أبي أنه سمع رسول الله - يقول: “أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك” .

ويروى أن أبا العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله - لما قدم من الشام، ومعه أموال المشركين، فقيل له: هل لك أن تسلم، وتأخد هذه الأموال، فإنها أموال المشركين؟ فقال أبو العاص: بئسما أبدأ به إسلامي أأخون أمانتي” ثم حملها وردها عليهم، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه. قالوا: لا فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك، وفيا كريما. قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوفي أن تظنوا أني أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم، وفرغت منها أسلمت .

وهكذا نرى عظمة الإسلام في حفظه لحقوق غير المسلمين، وصيانته لحرماتهم وأموالهم وأعراضهم، وليس فيه استباحة ولا استحلال لمال إنسان أو حرماته، أو دمه، طالما أنه في ذمة الإسلام، وكنف دولته. . .

عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – عن النبي - قال: “من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما ” .

هذا في حق غير المسلم، فكيف بالمسلم. . .

إننا نهيب بالذين يقدمون على قتل الأبرياء من المسلمين وأطفالهم ونسائهم عن عمد وإصرار أن يرعووا، وأن يقلعوا عن ما هم فيه من الضلالة والغواية التي زينها لهم الشيطان حتى أصمهم، وأعمى أبصارهم: الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .

وليعلم هؤلاء أنهم مسؤولون بين يدي الله عن هذه الدماء، ولن يفلتوا من الحساب عليها، كما أنهم مسؤولون عن الذين يصدونهم عن حب الإسلام واعتناقه بسوء صنيعهم، وسيء فعالهم. . . .

إن في فهم هذا الدرس وقف لسيل الدماء الدافق، وإنهاء لمسلسل العنف التي ابتليت به ديار المسلمين، ولا ذنب للإسلام فيها، كما أنه لا يخدم إلا أعداء الإسلام، حيث يجعلون من الإسلام العدو الذي يهدد الحياة الإنسانية، ولا بد من وقف زحفه، والوقف في وجه صحوته المباركة حتى لا يعم نوره، ولا ينتشر عدله وأمانه للبشرية جمعاء بما فيهم الأعداء.

9 – هجرة الذنوب والمعاصي:

كانت البيعة الأولى على التوحيد الخالص وتنقية القلب من الشرك والشك، وتطهير الجوارح من المعاصي والآثام، ثم كانت البيعة الثانية على السمع والطاعة والنفقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق، والذود عن رسول الله - وحمايته والدفاع عنه. . وبناء الأفراد والبيوت علي هذه المعاني العالية والآداب السامية. .

كل هذه البنود تحتاج إليها المجتمعات الإسلامية في عصرنا. فإذا كانت الهجرة مضت بأهلها، فإن القوة التي توخاها النبي - بالهجرة، لا يزال نظام الإسلام وآدابه وأهدافه مفتقرة اليوم إلى مثلها، بل هي اليوم أشد افتقارا إلى مثل تلك القوة مما كانت في زمن الهجرة..

نحن محتاجون اليوم من معاني الهجرة إلى أن ننخلع في بيوتنا عن الآداب التي تخالف الإسلام، وأن نعيد إليها عقيدة التوحيد الخالص من الشك والشرك، وأن نثبت دعائمها بالأخلاق والقيم الإسلامية، وفي مقدمتها الصدق والصراحة في الحق، والاستقامة في السلوك، والاعتدال والقصد، والمحبة والتعاون على الخير. .

10 – البيت المهاجر:

فالبيت الإسلامي وطن إسلامي، بل هو دولة إسلامية، فالواجب أن أبدأ بمملكتي التي هي بيتي فأهاجر أنا ومن فيه من زوجة وبنين وبنات إلى ما يحبه الله من صدق وأمانة وبر ووفاء، وحياء وعفة وطهارة، كما يجب علينا أن نحب الإسلام وآدابه محبة تمازج دماءنا، ونتحرى هذا في أخلاقنا ومعاملة بعضنا لبعض.

فإذا تربينا في بيوتنا على محبة الإسلام، وتعودنا العمل به في مختلف ضروب الحياة، فشا العمل به من البيوت إلى دواوين العمل، ومؤسسات الدولة، والأسواق والأندية وسائر المجتمعات، ولا نلبث أن يغير الله حالنا لأننا غيرنا نفوسنا: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .

وهذا النوع من الهجرة يأتي واضحا في هذا الحديث الذي يعرف بالإسلام في أبسط تعريف، وأيسر إرشاد:

عن عمرو بن عبسة ? قال: قال رجل: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: أن يسلم لله قلبك، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك، وقال: فأي الإسلام أفضل؟ قال الإيمان. قال: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت. قال فأي الإيمان أفضل؟ قال: الهجرة قال: وما الهجرة؟ قال: أن تهجر السوء. قال فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد. قال: وما الجهاد؟ قال: أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم. قال فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده، وأهريق دمه. قال رسول الله - ثم عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما: حجة مبرورة أو عمرة مبرورة” .

ويتأكد هذا المعنى بحديث فضالة بن عبيد ? أن النبي - قال في حجة الوداع: “ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم. والمسلم؟ من سلم الناس من لسانه ويده. والمجاهد؟ من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر؟ من هجر الخطايا والذنوب” .

فإلى الهجرة أيها المسلمون.

إلى هجر الخطايا والذنوب في أعمالنا وأخلاقنا. .

إلى هجر ما يخالف الإسلام في بيوتنا. ، . .

إلى هجر الأنانية والصغائر وسفاسف الأمور. .

إلى هجر الحقد والحسد والرياء والنفاق والعداوة والبغضاء. . مما أراد نبي الرحمة أن يطهر منه نفوس أمته، حتى تكون خير أمة أخرجت للناس.

بهذا، وبهذا وحده نحيي ذكرى الهجرة الشريفة ونحقق مقاصدها ونستمطر رحمة الله على بيوتنا وأوطاننا. . .

هل من مستجيب؟