واتقوا يوما ترجعون فيه إلي الله
اميمة الجابر
تزينت لنا الدنيا بألوان الزخارف , وتعددت أمامنا الفتن , وما زالت قلوبنا تنساق وراءها , أحيانا ًنحاول منعها , و أحياناً يصيبنا شيء من الضعف و الوهن , كثيرا ما نحاول أن ننصح غيرنا وفي داخل أنفسنا مازلنا نحتاج لذلك النصح !
وعادة عندما نفتقد حبيبا لنا لقي ربه نتأثر لفراقه , ونظل نذكره أياماً معدودة و ربما اعتبرنا واتعظنا بتذكرة , لكننا سرعان ما تنسينا الدنيا فنعود مرة أخرى لما كنا عليه من الغفلة والانفلات !
تعالوا لنتدبر آخر وصية قرآنية نزلت فيها صلاحنا وفيها النجاة , يقول الله سبحانه : " و اتقوا يوماً ترجعون فيه إلي الله ثم توفي كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون " البقرة 281 , يقول ابن كثير في تفسيرها : " هذه الآية أخر ما نزل من القران العظيم وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى , واحذروا أيها الناس يوما ترجعون فيه إلى الله فتلقونه فيه أن تَردوا عليه بسيئات تهلككم , أو بمخزيات تخزيكم , أو بفضيحات تفضحكم , فتهتك أستاركم , أو بموبقات توبقكم , فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به , وإنه يوم مجازاة الأعمال لا يوم استعتاب , ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة , ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة , توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح , لا يغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت , فتوفى جزاءها بالعدل من ربها , وهم لا يظلمون . وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها وبالحسنة عشر أمثالها , كلا بل عدل عليك أيها المسيء , وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن , فاتقى امرؤ ربه فأخذ منه حذره وراقبه أن يهجم عليه يومه , وهو من الأوزار ظهره ثقيل , ومن صالحات الأعمال خفيف , فإنه عز وجل حذر فأعذر , ووعظ فأبلغ " تفسير القرآن العظيم
إنها لأعظم وصيه , كيف لا؟ وهي وصيه رب العالمين وخالق الخلق أجمعين فهو سبحانه عالم بما يصلح أحوالهم , وهو سبحانه المطلع علي مصيرهم وما لهم وما ينتظرهم من مواقف وأهوال لا ينجوا منها إلا المتقون , فأوصانا وهو الرحيم بنا بما ينجينا من سخطه وعذابه فأمرنا بالتقوى .
فليس علينا إلا الاستعداد ليوم الرحيل وهذا الاستعداد لابد من ترجمته ترجمه عمليه بأن نجعل بيننا وبين عذاب الله تعالي وقاية , فنقوي هممنا بكثرة الإنابة , والخطوات إلي المساجد , وبر الوالدين , وصله الأرحام , والصدقة , والإحسان إلي الفقراء والأرملة واليتيم , وغض البصر وحفظ الفرج , وكف الأذى وحفظ اللسان , والوفاء بالعهد وقيام الليل , وقراءة القرآن , وصيام النهار ..
بل علينا أن نسارع إلي كل أبواب الخير لنغنم محبة الله سبحانه ورضاه , ولنكون يوم القيامة مع الفائزين ويوم الحشر مع الآمنين , ونكون ممن ينادي عليهم : " يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون " الزخرف 68
حيث تتلقانا الملائكة وتطمئننا حتى لا نفزع مما نراه في ذلك اليوم , بل وتبشرنا بجنة الخلد : " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون " فصلت 30
فمن أراد الفوز والنعيم المقيم و السعادة والنجاة فعليه ألا يُبرح هذه الآية خياله و لا تغيب عن باله ..(واتقوا يوماً ترجعون فيه إلي الله )
إنه يوم ليس ككل الأيام , إنه يوم الرجوع إلي رب العالمين , تجتمع فيه الخلائق أجمعون , يخرجون من قبورهم .... الكل في انتظار الحساب .
و عندما اشتد الوجع بالنبي صلي الله عليه و سلم و جاء وقت لقاء الله تعالي بدأ يتصبب عرقاً , تقول عائشة رضي الله عنها سمعته يقول " لا إله إلا الله إن للموت لسكرات " .. إنه الرسول صلي الله عليه و سلم الذي يشعر بتلك السكرات فما بالنا نحن في تلك اللحظات , ونحن العصاة المذنبون ؟!
إننا نلتمس الرحمة من الله الرحمن , والعفو من الله العفو , و المغفرة من الله الغفارسبحانه وتعالى , لذا علينا أن نكون دائماً علي استعداد لذلك الموعد , فلا نغفل عن محاسبة أنفسنا لحظة بلحظة , و ساعة بساعة , و يوما بيوم , نكون دوماً مستغفرين شاكرين ذاكرين له سبحانه .
كذلك أوصى صلى الله عليه وسلم في آخر وصاياه :" و الله ما الفقر أخشي عليكم ,و لكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها كما تنافسها الذين من قبلكم ,فتهلككم كما أهلكتهم "
أما وقد تحقق ما حذر منه صلى الله عليه وسلم فلزمنا الحذر كل الحذر لئلا تقع النتائج فنهلك كما هلك الذين من قبلنا .
ولسنا نقصد بعرض تلك التذكرة أن نجلس صامتين تملأ الدموع أعيننا , بل علينا أن نحفز أنفسنا باستغلال طاقة الحزن على تقصيرنا لصنع التغير الداخلي في النفس و التخلص من شوائبها و أمراضها فإن الله تعالى يقول :" إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "
والذي يبعدنا عن تقوى اليوم الآخر أمران : الذنوب والحقوق , فلنراجع حساباتنا من جديد توبة من ذنوبنا ثم لنسألها هل علينا من حقوق لله تعالي ؟ ثم ننظر هل علينا من حقوق للناس ؟!
والذي ينجينا من ذلك اليوم ولاشك هو الارتباط بوحدانية الله سبحانه وعقد القلب على التوحيد الخالص والإيمان الصادق إذ يقول سبحانه : " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً و لا يشرك بعبادة ربه أحداً " الكهف 110
ثم مناط العمل الصالح الذي ينتظم كل مناحي الحياة " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين بذلك أمرت وأنا أول المسلمين "
ثم يأتي محور الإصلاح , ودور عمارة الأرض بما تعلمناه من شريعة ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم , بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وعلينا قبل أن نأمر غيرنا بالمعروف وننهاهم أن نأمر أنفسنا أولا و ننهاها , فوعظ النفس مقدم علي أمرالآخرين ونهيهم و موعظتهم , إن هذه هي التقوى الإلهية المطلوبة منا .
إن للنفس إدبارا كما لها إقبال ومن الصعب بمكان أن يظل المرء على حال واحدة , فالإيمان يزيد وينقص , يزيد بالطاعات وينقص بالآثام , فمنا من يرتقي ومنا من لا , و لكن تبقي العزيمة و النية الصادقة و قوة الإرادة للثبات فى وجه متغيرات النفس و شهواتها هي المعول .
إن اللحظة التي تصلح فيها حياتنا لهي تلك اللحظة التي نتمثل فيها تلك الآية وأمثالها , فنتذكر اليوم الآخر, يوم نرجع إلى الله سبحانه , فلا أنيس ولا جليس , ولا مال ولا زخرف ولا متاع , ولكن حساب وعقاب وثواب , ونتمثل مدى حاجتنا للتقوى بينما توفى كل نفس ماكسبت " وهم لايظلمون " |