قصة وعظات
نادية بلغازي
ذكر ابن الجوزي في كتابه مناقب الإمام أحمد أن الإمام أحمد بن حنبل كان مسافراً فمر بمسجد ولم يكن يعرف أحداً في تلك البلدة، وكان وقت النوم قد حان، فافترش مكانه في المسجد بعد الصلاة واستلقى فيه لينام، وبعد لحظات إذا بحارس المسجد يطلب من الإمام مغادرة المسجد، وكان هذا الحارس فظا غليظا ولا يعرف الإمام الذي لا مكان يعرفه لينام فيه، فما كان منه إلا أن خرج وعمد إلى عتبة باب المسجد وجلس، لكن الحارس منعه من ذلك كذلك وجره جرا رغم كبره ووقاره، والإمام متعجب، إلى أن أبلغه إلى وسط الطريق، وكان بمقابله دكان لخباز فسأل: ما بكما؟ فقال الإمام أحمد: لا أجد مكانا أنام فيه والحارس يرفض أن أنام في المسجد، فدعاه للمبيت عنده، ففعل.
تفاجأ الإمام أحمد بكثرة تسبيح هذا الرجل وهو يعد العجين ويصنع الخبز ويضعه في التنور، لا يفتر لسانه عن ذكر الله، وأحس بأن أمر هذا الرجل عظيم من كثرة تسبيحه واستغفاره، فسأله: هل رأيت أثر التسبيح عليك؟ فقال الخباز: نعم! ووالله إني كلما دعوت الله دعاء يستجاب لي، إلا دعاء واحدا لم يستجب لي حتى الآن، فقال الإمام: وما ذاك الدعاء؟ فقال الخباز: أن أرى الإمام أحمد بن حنبل، فقال: “أنا الإمام أحمد بن حنبل، فوالله إنني كنت أجر إليك جراً”.
سبحان الله!
من العبر المستفادة
* الشوق للقاء أهل العلم والصلاح كان سمة المجتمع المسلم، والاعتراف لهم بالفضل تصديقا لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي رحمه الله: “ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ومن لم يعرف لعالمنا حقه”، بل والتماسا لصحبتهم الإيمانية ولما عندهم من فضل، وقد “كان علماؤنا وصلحاؤنا يكثرون من زيارة أهل الخير؛ ويتبركون بلقائهم؛ ويتواصون بأن يدعو بعضهم لبعض؛ ويذكر بعضهم بعضا بين يدي الله عز وجل في خلواتهم وجلواتهم وتهجدهم” [الإمام عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 126]. روى البخاري عن المغيرة عن إبراهيم عن علقمة قال: “قدمت الشام فصليت ركعتين؛ ثم قلت: اللهم يسر لي جليسا صالحا؛ فأتيت قوما فجلست إليهم؛ فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي؛ قلت: من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء؛ قلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليسا صالحا فيسرك لي”.
* الدعاء مخ العبادة ولبها، وحقيق بالله الكريم أن يستجيب لقلب متبتل ضارع حاضر غير لاه، فهم الصالحون كنهه، فما تركوه في أمور الدنيا ولا الآخرة لأنفسهم وأهاليهم وعيالهم وللمؤمنين والمؤمنات، روى أبو نعيم في الحلية؛ حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي قال: سمعت أحمد ابن الضحاك الخشاب يقول، وكان من البكائين: رأيت فيما يرى النائم شريح بن يونس فقلت: “ما فعل بك ربك يا أبا الحارث؟ فقال: غفر لي، ومع ذلك جعل قصري إلى جنب قصر محمد بن بشير بن عطاء الكندي، فقلت: يا أبا الحارث، أنت عندنا أكبر من محمد بن بشير، فقال: لا تقل ذاك فإن الله تعالى جعل لمحمد بن بشير حظا في عمل كل مؤمن ومؤمنة، لأنه كان إذا دعا الله قال اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات والكائنين منهم”.
* الابتلاء سنة مطردة، وهي أشد عند أهل الصلاح والقرب، وها هو ذا الإمام أحمد يجر من رجله جرا وهو على ما عليه من المكانة والعلم والصلاح. عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فيما أخرجه ابن ماجة قال: “قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء صلوات الله عليهم ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، أو قال: على حسب دينه؛ فإن كان صلب الدين اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر ذلك، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي وليس عليه خطيئة”.
* اقتران الحلم والعلم من خصال الإيمان، وهذا الإمام أحمد يتحمل فظاظة الحارس وأذاه. عند البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: “ليس الشديد بِالصُّرَعَةِ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”.
* عفة العلماء وتواضعهم وجميل خلالهم، حتى إن الإمام أحمد لم يتوسل بمكانته التي يسير بذكرها الركبان لينال حظا من الحظوظ، وإن كان الحق في المبيت في بيت الله.
* الاستغراق في ذكر الله لا يشغل عنه شاغل، وتلك وصية نبوية خالدة جزاؤها القرب والسبق وإجابة الدعاء، روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان فقال: “سيروا هذا جمدان، سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات”.
* تكافل المجتمع المسلم وشيوع روح المواساة، إذ لا مجال لترك ذا الحاجة أو الخصاصة داخل المجتمع المسلم، وها هو ذا الخباز يستضيف الإمام أحمد رحمه الله ولا يدعه عرضة للشارع.
هذا غيض من فيض، ورحم الله سادتنا الأكابر، وصل اللهم على حبيبنا وسيدنا محمد ومن استنار بهديه ومن تبعه ووالاه. |