رضا الوالدين وأثره في سعادة الدارين
السعادة والعيش الرغد من أكثر الأشياء التي تطلبها النفس الإنسانية وتسعى إليها الطبيعة البشرية، وتدور حول فلَكها معظم الرغبات الآدمية.
ولا شك في أن السعي إلى السعادة الدنيوية مطلب محمود، لذا شرع الله لعباده -تفضلا منه ورحمة- شرائعَ وفصّل لهم أحكاما، لتقودهم ليس فقط إلى هذه السعادة الدنيوية، بل لتُحصِّل لهم الفوز بالسعادة الأبدية سعادة الآخرة
ومن هنا نجد أن علماءنا ذكروا في تعريفهم "للدِّين" أنه: (وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم المحمود لما فيه خير الدنيا والآخرة). (انظر إشارات المرام من عبارات الإمام ص21)
ومن أهم هذه الأحكام الشريفة والأوامر الربانية المنيفة التي جاء بها ديننا الحنيف هو بر الوالدين، فقد أمر الله سبحانه وتعالى ببرهما ووعد على ذلك الأجر العظيم في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، وجعل الوالد باباً من أبواب الجنة، وسبباً من أسباب السعادة، فلماذا رتَّب الله كل ذلك الأجر على برّهما؟ وما هي أهمية بر الوالدين من الهدي النبوي؟ وماذا أعد الله للبارِّين من الثواب والسعادة في هذه الدار وفي تلك الدار؟ هذا ما سنسلط عليه الضوء في هذه الكلمات بعون الله تعالى.
أهمية البرَّ
جاء التنويه إلى أهيمة البرِّ والحضّ عليه في مواطنَ كثيرةٍ من الكتاب والسنة، فمن ذلك قوله تعالى:
وَقَضَى? رَبُّكَ أَلَّا تَع?بُدُو?اْ إِلَّا? إِيَّاهُ وَبِ?ل?وَ?لِدَي?نِ إِح?سَ?نًا? إِمَّا يَب?لُغَنَّ عِندَكَ ?ل?كِبَرَ أَحَدُهُمَا? أَو? كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا? أُفّ? وَلَا تَن?هَر?هُمَا وَقُل لَّهُمَا قَو?ل?ا كَرِيم?ا (23) وَ?خ?فِض? لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلِّ مِنَ ?لرَّح?مَةِ وَقُل رَّبِّ ?ر?حَم?هُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِير?ا (24)(الإِسْرَاء 23,24)
قال الإمام القشيري رحمه الله في تفسيره: وأمر بالإحسان إلى الوالدين ومراعاة حقّهما، والوقوف عند إشارتهما، والقيام بخدمتهما، وملازمة ما كان يعود إلى رضاهما وحسن عشرتهما ورعاية حرمتهما، وألا يبدى شواهد الكسل عند أوامرهما، وأن يبذل المكنة فيما يعود إلى حفظ قلوبهما ... هذا فى حال حياتهما، فأمّا بعد وفاتهما فبصدّق الدعاء لهما، وأداء الصدقة عنهما، وحفظ وصيتهما على الوجه الذي فعلاه، والإحسان إلى من كان من أهل ودّهما ومعارفهما.
(تفسير القشيري 2-344)
ثم ذكر الإمام القشيري رحمه الله تعالى لطيفة دقيقة جدا تُجلِّي بعض الأسرار الكامنة وراء هذ الأمر الرباني ببر الوالدين، فقال رحمه الله: ويقال إنّ الحقّ أمر العباد بمراعاة حقّ الوالدين وهما من جنس العبد. فمن عجز عن القيام بحقّ جنسه أنّى له أن يقوم بحقّ ربه؟ (تفسير القشيري 2-344)
ومما ورد من الآيات في الحضّ على برّ الوالدين والإحسان إليهما قوله تعالى:
وَإِذ? أَخَذ?نَا مِيثَ?قَ بَنِي? إِس?رَ??ءِيلَ لَا تَع?بُدُونَ إِلَّا ?للَّهَ وَبِ?ل?وَ?لِدَي?نِ إِح?سَان?ا (البقرة 83)
وقد ذكر الإمام الرازي رحمه الله تعالى لطيفة جميلة جليلة في سر الأمر الإلهي ببرّ الوالدين عقِب الأمر بالتوحيد فقال رحمه الله: إنما أردف عبادة الله بالإحسان إلى الوالدين لوجوه،
أحدها: أن نعمة الله تعالى على العبد أعظم، فلا بد من تقديم شكره على شكر غيره ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعم النعم، وذلك لأن الوالدين هما الأصل والسبب في كون الولد ووجوده كما أنهما منعِمَان عليه بالتربية، وأما غير الوالدين فلا يصدر عنه الإنعام بأصل الوجود، بل بالتربية فقط، فثبت أن إنعامهما أعظم وجوه الإنعام بعد إنعام الله تعالى.(مفاتح الغيب 3-585). ثم ذكر لطائف أخرى يضيق المقام عن ذكرها.
ولو رحنا نعدد الآيات التي أشارت إلى بر الوالدين لطال بنا المقال ولتشَعَّب الكلام، ولكن فيما ذكرناه كفاية، والله ولي العناية.
أما السنة المطهرة فقد امتلأت بالأحاديث المشرفة التي تحض على السعي في رضا الوالدين، فمن ذلك:
ففي الصحيحن عن ابن مسعود رضي الله عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم:
أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل قال: الصلاة على وقتها. قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله. (صحيح البخاري ومسلم)
ومنها ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال:
جَاءَ رَجُلٌ إلى رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فقال: يا رسول اللَّه مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بحُسنِ صَحَابَتي؟ قال: «أُمُّك» قال: ثُمَّ منْ؟ قال: «أُمُّكَ» قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: «أُمُّكَ» قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: «أَبُوكَ». (متفقٌ عليه)
والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جداً، وما ذلك إلا لأهمية هذا الأمر وعظمه عند الله تعالى.
فوائد وثمرات برِّ الوالدين في الدنيا والآخرة
إنَّ أثرَ برِّ الوالدين يظهر في حياة الإنسان عاجلاً غير آجل، فترى أبواب الرزق والسعادة والتوفيق مُفَتَّحةً للبارِّ، فيجني في الدنيا بعض ما زرع من الخير.
ومن أهم الفوائد المترتبة على بر الوالدين:
بر الوالدين من أعظم أسباب تفريج الكربات.
في قصة أصحاب الغار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر فمالوا إلى غار في الجبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها فقال أحدهم اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي وإنه ناء بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء. (البخاري)
بر الوالدين من أسباب استجابة الدعاء.
قالَ رَسُولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام:
ثلاث دعواتٍ مستجاباتٌ لا شكّ فيهنّ دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده. (رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد)
بر الوالدين من أعظم أسباب سعة الرزق والعيش الهنيء.
فعن سيدنا أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
من أحب أن يبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه. (متفقٌ عليه)
ولا شك بأن الأب والأم هما أولى الأرحام بأن توصل.
أما الثواب في الآخرة فقد مرَّت الإشارة إليه، ويكفي في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:
الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضِع ذلك الباب أو احفظهَ. (رواه الترمذي وابن ماجه.)
بعض الوسائل التي يمكن من خلالها نيل رضا الوالدين:
القيام على خدمتهما وقضاء حوائجهما ولو لم يطلبا منك ذلك.
الالتزام بأوامرهما والمبادرة إلى تنفيذ رغباتهما وإن عارضتْ رغباتك الشخصية، أو رعوناتك النفسية، وكن حذراً كل الحذر من التَّلَكُّؤِ أو التقاعس عن القيام بما أمراك به، وإياك والتبرّمَ والضجرَ من طلباتهما.
التبسم في وجههما وإظهار الفرح بتنفيذ رغباتهما.
إهداؤهما الهدايا وتذكُّرهما بالعطايا: وهذا مما يغفل عنه كثير من الناس، فإن الوالدين وإن كانا غنيين فإنهما يفرحان بما يهديه ولدهما إليهما، ويشعران بأنه قد تذكرهما ولم ينسَ معروفهما.
طلب الدعاء منهما، فدعاء الوالدين مستجاب كما مر.
الدعاء لهما في حياتهما وبعد موتهما.
اختر أجمل الكلمات وأعَذبها أثناء مخاطبتهما.
اجعل أيامك كلها أعيادا بهما، فبينما يحتفل بعض الغربيين بما يسمونه عيد الأب وعيد الأم وعيد الوالدن، ويتبرمون بهما بقية العام، فإن المسلم يرى كلَّ يوم يمشي فيه أبواه على الأرض عيداً يستحق الاحتفال والشكر، لأنهما في الحقيقة باب قائم مفتوح من أبواب الجنة، وأي عطية أو أي عيد يعدل هذه العطية وهذا العيد.
احذر كل الحذر من عقوقهماـ، فإن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر.
بعض الناس يتخذ من تقصير والديه في حقه أو في جنب الله سبحانه سببا لعدم السعي في برهما، فلتحذر كل الحذر من الوقوع في هذا فإنه من تلبيس إبليس، فإن الله أمر ببر الوالدين (انظر تفسير الرازي 3/585) فكيف وهما مسلمان مقصران عاصيان، فهما أولى بالبر، وإذا أردت نصحهما فتحين الفُرَص المناسبة، وتلطف باختيار العباراتِ الملائمةِ ولا تُغْضِبْهما ولا تجازو الأدب في معاملتهما.
واذكر ما ورد عن عن أَسْمَاءَ بنْتِ أبي بكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّه عنهما قالت:
قَدِمتْ عليَّ أُمِّي وهِي مُشركة في عهْدِ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فَاسْتَفتَيْتُ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قلتُ : قَدِمتْ عَليَّ أُمِّى وَهِى راغبةٌ -"أَي : طَامِعةٌ عِندِي تَسْأَلُني شَيئاً"-، أَفأَصِلُ أُمِّي ؟ قال : « نَعمْ صِلي أُمَّكِ ». (متفق عليه.)
وفي الختام، فلا يخفى سبيل الرضا على من كتب الله له السعادة، فحصلت له السيادة والريادة، وفيما ذكرناه كفاية للّبيب ومَقنَعٌ للأريب، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يكرمنا ويشرفنا ببرِّ آبائنا وأن يرزقنا برَّ أبنائنا، إنه سميع قريب مجيب،.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه أجميعن. |