كيف نجعل من رمضان فرصة للتغيير؟
1- كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في آخر يوم من شعبان : " أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر. شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة، ...." ،
2- لن يتذوق المسلم حلاوة الطاعة ، ويتعرف على عظمة التشريع ، إلا إذا ربط تعاليم الإسلام بالمقاصد والغايات التي من أجلها خلق الله تبارك وتعالى الخلق ، ..وغايات الخلق- كما ذكر الأصفهاني - تدور على محاور ثلاث : العبادة ، والخلافة ( ليست بمعنى الحكم هنا ) ، وعمارة الأرض ، ... وعندما نربط الصوم بهذا الغايات سوف نستشعر معنى جديدا للصيام ، والمسلم الذي لا يفهم مقاصد وأسرار الصوم سوف يتعامل مع هذه الفريضة كما يتعامل الإنسان مع ضيف ثقيل الظل ، يصبر على مشقة ضيافته، وينتظر رحيله بفارغ الصبر . ويمضي أيام ضيافته وهو يقتل الوقت انتظار للتخلص منه ، ....وعلينا أن نعلم أن شهر رمضان – كما قال الرافعي رحمه الله – يفعل في نفس المسلم كما يفعل الشتاء ، فظاهره البرد والمشقة ، ولكنه ربيع كل الفصول وسر حياتها . ، ولهذا من أضاع رمضان ولم ينتفع به ربما لن ينتفع بسائر العام .
3- نحن نعيش في وسط مادية جارفة ،كما أن مشاغل الحياة ، وطبيعة العصر ، تشتت هم الإنسان وذهنه ، وتجعله يهيم في أودية الدنيا ، ولهذا كان من روائع أدعية المصطفى صلى الله عليه وسلم : "اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها أمري وتلم بها شعثي وتصلح بها غائبي ترفع بها شاهدي وتزكي بها عملي وتلهمني بها رشدي..." وعلى المسلم الصادق أن لا يجعل أودية الدنيا أكبر همه ،لقوله صلى الله عليه وسلم : "من كانت الدنيا همه جعل الله فقره في قلبه ، وشتت عليه أمره ، ولم يأته منها إلا ما كتب له ...."
4- هناك رباط أصيل ، وتلازم تام بين شهر رمضان و " التغيير " ، فالقرآن الكريم ، الذي غير وجه الكون وأخرج خير أمة أخرجت للناس وكان بداية التغيير في العالم ؛ نزل في " رمضان " ، قال تعالى " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ..." ، ويوم الفرقان الذي كان "بدرا" ينير الدنيا ، كان في رمضان ، وجل الإنتصارات الإسلامية كانت في رمضان ، بل من عجائب التشريع ، أن كثيرا من الأمور تتغير بقدوم رمضان ، فأبواب الجنان في السماء تفتح ، وثواب الأعمال يتضاعف " الفريضة فيه بسبعين فريضة فيما سواه " ، والعمرة في رمضان كالحجة التامة ،... بل حتى الروائح تتغير ، فيصبح خلوف فم الصائم " أطيب " من رائحة المسك ، ومردة الشياطين التي كانت تسعى " تُصفد " ؟... فمن الخسارة والخذلان ، أن يتغير كل الكون من حولنا في رمضان ثم نقف ولا نتغير .
5- الإنسان " السوي " دائما يسعى للتغيير ، ولكنه يخدع نفسه أحيانا ، وينتظر رافدا من روافد القوة يدفعه لهذا التغيير المنشود ، وفي تقديري لن نجد رافدا على التغيير مثل رمضان ، ... ولكن ماهي الخصائص الموجودة في رمضان حتى يصبح عونا لنا على هذا التغيير ؟
أولا : البرمجة السلوكية ، فالإمتناع عن المفطرات في رمضان ، يحدث ما يسميه علماء التربية " إعادة البرمجة " ، حيث يتخلص المسلم من العادات السيئة بسبب " تكرار " الفعل
ثانيا : اتخاذ القرار ، فالصوم يعلمنا اتخاذ القرار دون أدنى تردد ، وكثير من الناس مشكلتهم ليس في عدم معرفة الحق والصواب ، إنما في اتخاذ القرار وتنفيذه .
ثالثا :الإنجاز ، فالمسلم الذي يتعود أن ينجز إنجازا متراكما ولو صغيرا، سوف يبعثه هذا النجاح إلى نجاح آخر ، وسوف يعيد هذا الإنجاز الثقة في النفس من جديد ، وعلينا أن نتخلص من هذا الداء الشرقي ، وهو " لنا الصدر دون العالمين أو القبر " ، فكثير من المسلمين إما أن يقوم بالعمل الكامل التام الكبير ، أو لا يفعل شيء على الإطلاق ؟
رابعا : كسر "الروتين" ، فرمضان يعلم المسلم كيف يكسر الروتين والعادات التي أسرته في سائر العام ، ويروض النفس على التغيير .
خامسا : النظام ، رمضان شأنه شأن كل العبادات في الإسلام ، كلها تعلمنا النظام الدقيق ، ولكن رمضان يتعلق بنظام صارم يتعلق بأهم احتياجات الإنسان الطبيعية .
6- أخيرا ، يمكن وضع خارطة طريق مختصرة لكيفية التغيير في هذا الشهر الفضيل :
أولا : علينا أن نعلم أن التغيير يعتمد على أركان ثلاثة ، وهي : الرغبة ، والمعرفة ، والتنفيذ
فمن لا يرغب في التغيير ، لن يتغير ....
ومن لا يعرف التغيير ، سيتغير ولكن ربما للأسوأ ...لأن التغيير علم ومعرفة
ومن لا ينفذ التغيير ، سيبقى مجرد إنسان واهم حالم عابث ....
ثانيا : لتكن أول خطوة لنا في التغيير في شهر رمضان هي : الصفح والعفو والتسامح ،وتخلية القلب من الحقد والغل والبغضاء ، لأنه تشل بذور الإيمان في القلب ، ... وهي مسألة غاية في الصعوبة وليس كما يظن بعضنا ، ولهذا كان روائع التشريع ، أن تكون ليلة النصف من شعبان هي ليلة التقرير السنوي التي ترفع فيها أعمال المسلم لله تعالى ، ولكن الله تعالى يغفر فيها للجميع إلا المشرك ، أو المتخاصمين ، فإن كنا نطلب من الله الصفح والعتق ،فعلينا أن نصفح على الناس ، ولهذا أقول " إن أردت أن يصفح الله عنك فاصفح عن الناس ، وإن أردت أن تُعتق فاعتق .
ثالثا : خطط للتغيير ، وحاول أن تجلس مع أسرتك وتضع خطة لهذا الشهر ، ولكن لا تضع أهدافا كبيرة لا يمكن تحقيقها ، ولا تزحم نفسك بكثرة الأهداف ، واعلم أن من يفشل في التخطيط ، فكأنما خطط للفشل .
رابعا : داوم على العمل الصالح في رمضان ، ولو كان قليلا ،فإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ، وإياك أن تقع في الخطأ الشائع ،وهو أن رمضان شهر " الإمتناع " ، بل رمضان هو شهر المبادرة للخيرات ، ولهذا قم بأي عمل نافع ، صل نافلة ، زر مريضا ، صل رحمك ، أمط أذى ، تعلم أو علم خيرا ، قدم العون للناس ،...
خامسا : استعن بالصحبة الصالحة ، وهناك فرق بين الصحبة الصالحة التي تدفعك للخير ، وتذكرك بالله ، وبين الصحبة التي تحقق لك نوعا من الانجسام والألفة والأنس دون أن تضيف لك جديدا .
أخيرا : إياك ثم إياك ، أن تعتمد على الأسباب ، فالله تعالى غني عن اجتهادك وعبادتك ، ولهذا يجب علينا أن نقف بين يدي الله ونكثر من "الدعاء" وتخير أوقاته الطيبة ، والتفنن فيه ، لأن الدعاء " فن " كما قال الغزالي ، وروح الدعاء هو الفقر والتضرع والوجل ، فالفقر مقام عظيم ، وكان الإمام النورسي رحمه الله يقول : كنزي عجزي ، ورأس مالي آمالي ، ... والفقر هو الوصف الحقيقي لنا : " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله " ، ولهذا كان الإمام ابن عطاء رحمه الله يقول :
: إذا أردت ورود الموارد عليك صحح الفقر والفاقة إليه ، إنما الصدقات للفقراء والمساكين ، تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه ، وربما فتح لك باب طاعة ولم يفتح لك باب القبول ، وربما قضى عليك بالذنب فكان سببا للوصول ،.. |