نزيف ذاكرة
السيد نواف العامر
تحت زيتونة عتيقة جلس يرمق الآفاق غربا، ويمناه تروح وتجيء على بياض وجهه الموجوع، لعل طائرالشحرور يحط قريبا منه يحمل معه بذورا من أشجار البلد، بعد انتظاره الذي طال لغيمة ثقيلة مرت فوق حيفا، فوق يافا، أو صفد، أواه ما أجمل عطر البلد.
عاد بذاكرته للوراء، هو يجري في أزقتها تشخط بدماء وردها الربيعي، والغرباء يزرعون موت الغرقد في الأنحاء، يا الله ومقبرة القرية الصغيرة ضجت كثرة الزوار، ونادت بالصوت العالي: " لا يا قيود الأرض "، ويواصل حركة يمناه، مسترسلة كخصلة شعر "نبيهة" ابنة الجيران التي دافعت عن عذرية الأرض ورحلت راكبة أجنحة الزعفران وياقوتة الحب الأزلي.
يداه لم تتعب من عزق حبات تربها، هو يعشق نبات المرار، ويذوب حنينا في شوك العكوب، ويلثم الندى على وجنة شقائق النعمان، هنا التقط أغصان الزعتر البري، وهناك تألق طائر الشنار في إبريل الأخضر يتكاثر لا يعبأ بالموت الفاغر فاه يصيح بالخطر.
آه يا خلة العماير وحاكورة العين البيضا، هو يناجي وجعه السرمدي، يتذكر ريحانة قلبه وليثه الأشقر "صلاح"، كم مرة ناوله طابة الصوف والفخارات السبعة، وكم مرة بان بياض أسنانه فرحا مع الصغار يرددون: " طاق طاق طاقية ... تاجروا بالقضية... رن رن يا جرس خنجر في ظهري انغرس "، والذاكرة تضج بالذكرى، والشريط يمضي ورقاص الساعة على عهده الدقاق.
قف يا ساعي البريد في ساح الكرامة وانقل أقاصيص الهوى العذري للوطن السليب، وسلم على الهامات التي ما عرفت النزول عن ظهر الجبل، وامتشق حسام حبة عرق تسمرت مكانها كي لا تسقط، وقبّل كف عشقت الرباط ونامت في تعاريج جبهتي العريضة، وابتسم لنظرات صقر الجبل في وديان تصب في عمق المتوسط روعة.
عاد بالذاكرة يوم عقد العزم على العودة في لحظة الهجرة، تتوالد الذاكرة بالذكرى، والعهد هو العهد، أقسم بالعصر ولن نخسر، فدماء النهر الجاري تتوالد سنين عجاف يأكلهن سبع الغربة المركبة، أقسم لن أخشى الغرقد ومن خلفه، وأعلن عزمي مواصلة دورة الحياة فدائيا لآخر العمر وإن طال المشوار.
هو لا يرجف فرقا من الآتي، هو يزحف في جوف الأحلام الأولى ويرعى جرحا تفتح برعمه لبنا خالصا سائغا من بين فرث ودم، حط زهره الوديع بين حبات الرمل الساخن، ليواجه شوكا زرع في ساقه، فشريان حبه يشير إلى البوصلة الكبرى الصادقة " فلذة كبده " صلاح.
هو يفرح يوما بالفجر ويغني في فرح غامر لصلاح، وتزغرد شجرته الرومية، وتنسل إلى غرفتها خجلا، قومي يا أم صلاح قد ولى عهد الأفراح، والصقر يرقب فرخه.
قد دق الجرس وحان لقاء الصخرة القدسية، قم والثم ترباً صلى الحبيب فيه إماما، وعانق حائطا ربط به الروح براقه، والنار تقدح شررا في عين رفيقي، هي نار تطلق موتا نحو الغرباء، وتعود البشرى قد عاد شهيدا، قد خاض النهر، قد رشف البحر، ونال منه رصاص الغدر.
فلتبرد نار الشمس، لكن ثأري لا يبرد، فلتقعد كل الدنيا لكن ناري لا تخمد، ولتعلن كل الدنيا نبأ المولد، عاد صلاحي يتجدد، مبروك يا عم عاد صلاح للدنيا والعهد تجدد... عهدا يتجدد، قد عدنا والعود أحمد، وتوتة توتة وما خلصت الحدوتة. |