تمت الإضافة بتاريخ : 18/01/2018

قصة إسلام أبي طلحة الأنصاري

عصام بن محمد الشريف

قال أنس رضي الله عنه: ((قال مالك أبو أنس لامرأته أم سليم، وهي أم أنس، إن هذا الرجل - يعني: النبي صلى الله عليه وسلم - يحرم الخمر. فانطلق حتى أتى الشام فهلك هناك.

 

فجاء أبو طلحة، فخطب أم سليم، فكلمها في ذلك، فقالت: يا أبا طلحة! ما مثلك يرد، ولكنك امرؤ كافر، وأنا امرأة مسلمة لا يصلح لي أن أتزوجك! فقال: ما ذاك دهرك! قالت: وما دهري؟ قال: الصفراء والبيضاء[2]، قالت: فإني لا أريد صفراء ولا بيضاء، أريد منك الإسلام، فإن تسلم فذاك مهري، ولا أسألك غيره، قال: فمن لي بذلك، قالت: لك بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

فانطلق أبو طلحة يريد النبي صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، فلما رآه قال: جاءكم أبو طلحة غرة الإسلام بين عينيه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالت أم سليم، فتزوجها على ذلك.

 

قال ثابت - وهو البناني أحد رواة القصة عن أنس -: فما بلغنا أن مهرًا كان أعظم منه أنها رضيت الإسلام مهرًا.

 

فتزوجها وكانت امرأة مليحة العينين، فيها صغر، فكانت معه حتى ولد له بني[3]، وكان يحبها أبو طلحة حبًا شديدًا، ومرض الصبي مرضًا شديدًا، فتواضع أبو طلحة لمرضه أو تضعضع له، فكان أبو طلحة يقوم صلاة الغداة يتوضأ، ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي معه، ويكون معه إلى قريب من نصف النهار، ويجيء يقيل ويأكل، فإذا صلى الظهر تهيأ وذهب، فلم يجئ إلى صلاة العتمة.

 

فانطلق أبو طلحة عشية إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وفي رواية: إلى المسجد - ومات الصبي فقالت أم سليم: لا ينعين إلى أبي طلحة أحد ابنه حتى أكون أنا التي أنعاه له، فهيأت الصبي فسجت عليه، ووضعته في جانب البيت، وجاء أبو طلحة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها ومعه ناس من أهل المسجد من أصحابه فقال: كيف ابني؟ فقالت: يا أبا طلحة ما كان منذ اشتكى أسكن منه الساعة وأرجو أن يكون قد استراح! فأتته بعشائه فقربته إليهم فتعشوا، وخرج القوم.

 

قال: فقام إلى فراشه فوضع رأسه، ثم قامت فتطيبت، وتصنعت له أحسن ما كانت تتصنع قبل ذلك، ثم جاءت حتى دخلت معه الفراش، فما هو إلا أن وجد ريح الطيب كان منه ما يكون من الرجل إلى أهله.

 

فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قومًا أعاروا قومًا عارية لهم، فسألوهم إياها أكان لهم أن يمنعوهم؟ فقال: لا، قالت: فإن الله عز وجل كان أعارك ابنك عارية، ثم قبضه إليه، فاحتسب واصبر! فغضب ثم قال: تركتني حتى إذا وقعت بما وقعت به نعيت إلى ابني! فاسترجع، وحمد الله.

 

فلما أصبح اغتسل، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه، فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بارك الله لكما في غابر ليلتكما)). فثقلت من ذلك الحمل، وكانت أم سليم تسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، تخرج إذا خرج، وتدخل معه إذا دخل، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ولدت فأتوني بالصبي)).

 

قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره وهي معه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طروقًا، فدنوا من المدينة، فضربها المخاض، واحتبس عليها أبو طلحة، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو طلحة: يا رب إنك لتعلم أنه يعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل، وقد احتسبت بما ترى.

 

قال: تقول أم سليم: يا أبا طلحة ما أجد الذي كنت أجد فانطلقا، قال: وضربها المخاض حين قدموا، فولدت غلامًا، وقالت لابنها أنس: يا أنس، لا يطعم شيئًا حتى تغدو به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت معه بتمرات، قال: فبات يبكي، وبت مجنحا عليه، أكالئه حتى أصبحت.

 

فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بردة، وهو يسم إبلًا أو غنمًا قدمت عليه، فلما نظر إليه، قال لأنس: ((أولدت بنت ملحان؟)) قال: نعم، فقال: ((رويدك أفرغ لك))، قال: فألقى ما في يده، فتناول الصبي وقال: ((أمعه شيء؟)) قالوا: نعم، تمرات فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بعض التمر فمضغهن، ثم جمع بزاقه، ثم فغر فاه، وأوجره إياه، فجعل يحنك الصبي، وجعل الصبي يتلمظ: يمص بعض حلاوة التمر وريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول من فتح أمعاء ذلك الصبي على ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((انظروا إلى حب الأنصار التمر))، قال: (قلت: يا رسول الله سمه، قال: فمسح وجهه وسماه عبد الله، فما كان في الأنصار شاب أفضل منه، قال: فخرج منه رجل كثير، استشهد عبد الله بفارس).

 

وعند البخاري[4]: قال سفيان: (فقال رجل من الأنصار: فرأيت لها تسعة أولاد كلهم قد قرأوا القرآن)[5] اهـ - أي: من ولد ولدهما عبد الله.

 

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي قصة أم سليم هذه من الفوائد أيضًا:

 

•جواز الأخذ بالشدة وترك الرخصة مع القدرة عليها.

 

• والتسلية عن المصائب.

 

• وتزين المرأة لزوجها، وتعرضها لطلب الجماع منه.

 

• واجتهادها في عمل مصالحه.

 

• ومشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها[6] وشرط جوازها أن لا تبطل حقًا لمسلم، وكان الحامل لأم سليم على ذلك المبالغة في الصبر، والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء إخلافه عليها بما فات منها، إذ لو أعلمت أبا طلحة بالأمر في أول الحال تنكد عليه وقته، ولم تبلغ الغرض الذي أرادته، فلما علم الله صدق نيتها بلغها مناها وأصلح لها ذريتها.

 

• وفيه إجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من ترك شيئًا عوضه الله خيرًا منه.

 

• وبيان حال أم سليم من التجلد وجودة الرأي وقوة العزم[7].

 

ومن الفوائد أيضًا:

 

• مشروعية الكنية للمرأة والرجل على السواء، وهو أدب إسلامي ليس له نظير في الأمم الأخرى.

_______________

[1] سلسلة المرأة الصالحة ، دار الصفوة بالقاهرة، 1437 ه، 2016 م.

 

[2] مراده بذلك إغراؤها بالذهب والفضة والمال الوفير.

 

[3] ذكر بعض أهل العلم أنه أبو عمير الوارد ذكره في ((الصحيح)) في حديث ((يا أبا عمير ما فعل النغير؟)).

 

[4] حديث رقم (1301).

 

[5] أخرجه الطيالسي (2056)، والسياق له، ومن طريقه البيهقي (4/ 65-66) وابن حبان (735)، وأحمد (3/ 105، 106، 181، 196، 287، 290)، ورواه البخاري (3/ 132، 133)، ومسلم (6/ 174، 175) مختصرًا، وروى النسائي (2/ 87) قسمًا من أوله.

 

هذا تخريج العلامة محمد ناصر الدين الألباني في ((أحكام الجنائز)) (ص38) ملحصًا، حيث بيّن زيادات كل واحد من المذكورين، وقد أضفت الزيادة الأخيرة التي عند البخاري لصلتها وأهميتها - وموضع الحديث في ((صحيح البخاري)) الطبعة السلفية مع الفتح - عند رقم (1301) و(5470)، وفي صحيح مسلم طبعة محمد فؤاد عبد الباقي رقم (2144) [22] (ص1689 ،1690) (107) (ص1909، 1910).

 

وقد أطال محقق ((صحيح ابن حبان)) النفس في تخريج هذا الحديث - فراجعه -غير مأمور- (16/ 157)، [امرأة تهفو لمثلها القلوب - خالد بن عبد الرحمن الشايع].

 

[6] وهو قولها لأبي طلحة: إن ولدهما قد سكن، وأنه استراح، فهي تقصد أن الولد قد مات، ولكن ليفهم أبو طلحة من ذلك أنه قد شفي.

 

[7] ((فتح الباري)) (3/ 204) باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة.