تمت الإضافة بتاريخ : 26/12/2017

علماء الإسلام في الأندلس2

محمد الخضر حسين

مكانة علماء الأندلس في العلوم الإسلامية:

كانت علوم الشريعة يوم فتحت الأندلس إنما هي القرآن يتلى، والحديث يروى، وبصائر عرفت روح الإسلام واهتدت طرق الاستنباط، فكان من الميسور لها أن تفصل لكل واقعة حكماً صالحاً.

 

وكانت الجيوش الفاتحة للأندلس تحمل في أجنحتها رجالاً تفقهوا بين أيدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كحسين بن عبد الله الصنعاني، والمغيرة بن أبي بردة العدوي، ومحمد بن أوس الأنصاري، وزيد بن قاصد، وعبد الرحمن الغافقي، ومن المعروف في التاريخ أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أرسل عشرة من علماء التابعين ليفقهوا أهل إفريقية في الدين، وأن من هؤلاء العلماء من دخلوا الأندلس لأول فتحها، مثل بكر بن سوادة، وحيّان بن أبي جبلة.

 

وورد الأندلس من غير هؤلاء رجال أوتوا العلم بالقرآن والسنة فانبثت في تلك البلاد مبادئ الدين الحنيف، ولكن مدافعة الأعداء في الخارج، وثورات الزعماء الطامحين إلى الرياسة في الداخل، جعلت البلاد في حركات حربية عنيفة، وإنما ينهض العلم ويسير في انتظام، حيث يكون الناس في سَلْم وطمأنينة.

 

جاء صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان وأقام في الأندلس دولة أموية مستوثقة العرى، فإذا طوائف من العلماء يفدون من الشرق ضيوفاً على الغرب، ورجال يرحلون من الغرب ثم يعودون بعد أن يشربوا من منابع العلم بالكأس الراوية، فتدفق سيل العلم بالمدائن والقرى، وأصبحت الأندلس تضاهي العراق بعلومها وتباهيه بعلمائها، وهذه بقية من مؤلفاتهم تخلصت إلينا من يد الإحراق والإغراق، تشهد فيها العلم الزاخر والنظر الراجح والأسلوب الحكيم.

 

ولا يسمح لي وقت هذه المحاضرة أن أبحث عن حالهم في العلوم بتفصيل، فأكتفي بكلمات موجزة أدل بها على مكانتهم في التفسير والحديث والفقه والكلام، وأصلها بكلمة في موقع علوم الفلسفة من عنايتهم، وأدع الحديث عن تقدمهم في علوم اللغة وآدابها إلى ساعة أخرى.

 

تفسير القرآن:

 

عني علماء الأندلس بتفسير الكتاب العزيز، وحظهم من الإجادة والتحقيق في هذا العلم كبير، فلعبد الرحمن بقي بن مخلد تفسير. يقول ابن حزم في وصفه: (هو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا استثنى فيه أنه لم يؤلف في الإسلام مثله، لا تفسير ابن جرير الطبري ولا غيره).

 

ومن أثر علماء الأندلس في التفسير أن بعض من دخلوا في الإسلام ككعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام كانوا يطارحون الناس قصصاً وأخباراً هي من نوع ما يتحدث به أهل الكتاب قبل الإسلام، ومن أجل أن هذه القصص والأخبار لا تتعلق بالشريعة في أصل ولا فرع، لم يبال بعض المفسرين أن يوردوها في تفاسيرهم دون أن يأخذوها بالنقد والتمحيص، ثم ظهر بعد هذا الحافظ عبد الحق بن عطية الغرناطي، وألف تفسيراً أربى فيه على من تقدم، ومن مزاياه أنه تحرى فيه من تلك الأخبار ما هو أقرب إلى الصحة، ثم جاء بعده أبو عبد الله محمد بن فرْح القرطبي، وألف تفسيراً تحامى فيه القصص والتأريخ، وصرف همته على الأحكام واستنباط الأدلة، بل تجده في بعض المواضع يأتي على شيء من تلك الأخبار ويدفعها ببيان مخالفتها للمعقول أو المنقول.

 

وتصدَّى طائفة من علمائهم لتفسير آيات الأحكام خاصة، مثل منذر بن سعيد البلوطي، وأبي بكر بن العربي، وعبد المنعم بن الفرس، ومنهم من يؤلف تفاسير متعددة، فلأبي بكر بن العربي كتاب الأحكام، وقانون التأويل، وأنوار الفجر، وهذا التفسير يبلغ ثمانين مجلداً.

 

فعلماء الأندلس في مقدمة من خلصوا التفسير من أخبار واهية وروايات مصنوعة، وفي مقدمة من بسطوا القول في استخراج الأصول والأحكام من الآيات البينات، ومن يقلب نظره في مؤلفاتهم يشهد بأنهم في مقدمة من حاربوا الآراء الفاسدة في تأويل القرآن.

 

علم الحديث:

 

نحن نعلم أن طائفة من علماء التابعين قد دخلوا الأندلس لأول الفتح، وأن طائفة أخرى تعدُّ من حملة الشريعة هبطت الأندلس قبل أن تقوم الدولة الأموية، ولكنا نجد الكاتبين في التعريف بعلمائها يقولون في شأن صعصعة بن سلام: أنه أول من دخل بالحديث بلاد الأندلس، وصعصة هذا إنما ورد الأندلس أيام عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية، وكأنهم يريدون بما قالوا أن صعصعة بن سلام أول من دخل بالحديث بلاد الأندلس بعد أن تنظم أمر الرواية وصارت الأحاديث تضبط بالكتابة والتدوين.

 

وأصبحت الأندلس في خلال المائة الثالثة دار حديث برجلين من رجالها رحلا إلى الشرق وعادا إليها بعلم غزير، وهما: بقي بن مَخلد، ومحمد بن وضاح، قال أبو محمد بن حزم: وإذا سمينا بقي ان مخلد لم نسابق به إلا محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج، وكان محمد بن وضاح يرد كثيراً مما يروى على أنه حديث نبوي ويقول: (ليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في شيء ) ومثل هذا المقال إنما يصدر لذلك العهد من محدث واسع الاطلاع.

 

ومن محدثيها: ابن عبد البر صاحب كتاب التمهيد الذي قال فيه ابن حزم: (لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً، فكيف أحسن منه؟!)

 

ومن دلائل عنايتهم بالحديث: أن حوالي قرطبة لذلك العهد قرى كثيرة وفي كل قرية منبر وفقيه، وكان لا يضع القالس على رأسه إلا من حفظ الموطأ، وقيل من حفظ عشرة آلاف حديث وأضاف إلى ذلك حفظ المدونة، هذا حال مفتي القرية، فماذا يكون حال العلماء في مجلس الشورى والقضاء بقرطبة، ونحوها من المدن ذات الأرياض الفسيحة والضواحي العامرة.

 

وقيام علماء الأندلس على منبعي الشريعة: التفسير والحديث هو الذي بلغ بهم أن كانوا في طليعة من حاربوا البدع والمحدثات، فقد كتب فيها أبو بكر الطرطوشي، وأثخنها أبو بكر العربي في مؤلفاته، وقاتلها أبو إسحاق الشاطبي في كتابي الموافقات والاعتصام قتالاً عنيفاً.

 

علم الفقه:

 

ظهر في الشرق أعلام الاجتهاد والفتوى، أمثال الأئمة: أبي حنيفة، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأخذ الناس يتلقون أقوالهم ومذاهبهم بالرواية والتدوين، وكان ممن اختص بالإمام الأوزاعي: صعصعة بن سلام، فقدم الأندلس أيام عبد الرحمن الداخل، وبه انتشر مذهب الأوزاعي هنالك، وأصبحت الفتوى تدور على هذا المذهب إلى أيام هشام بن عبد الرحمن.

 

في أيام هشام بن عبد الرحمن رحل فريق من أهل الأندلس إلى الشرق، وجلسوا إلى مالك بالمدينة، وأخذوا عنه، ثم عادوا بكتاب الموطأ ووصفوا من فضل مالك وسعة علمه ما عظم به صيته، فانتشر مذهبه وبقي العمل في القضاء والفتوى عليه إلى أن أفلت شمس الإسلام من تلكم الآفاق.

 

وذهب ابن حزم في سبب انتشار مذهب الإمام مالك بالأندلس إلى وجه آخر فقال: إن يحيى بن يحيى الليثي أحد رواة الموطأ عن مالك كان مكيناً عند السلطان مقبول القول في القضاة، وكان لا يلي قاض في أقطار الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به، على أن يحيى لم يل قضاء قط، ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائداً في جلالته عندهم، وداعياً إلى قبول رأيه لديهم.

 

والتاريخ والمشاهدة يدلان على أن المذهب ينتشر في الناحية حيث يختص أصحابه بمنصب القضاء ونحوه، وينتشر في الناحية حيث يكون كبار علمائها أو معظمهم ممن تفقهوا عليه وصاروا من أشياعه، ولعل انتشار مذهب مالك بالأندلس يرجع إلى السببين كليهما.

 

تفقه أهل الأندلس على مذهب مالك بن أنس إلا أن كثيراً منهم يأنسون في أنفسهم الكفاية للاجتهاد أو الترجيح فيأخذون بما يرونه الصواب وإن خالف مذهب مالك وأصحابه جميعاً.

 

وممن أصبح مستقل النظر في الأحكام: القاسم بن محمد بن سيار، قال فيه محمد بن عبد الحكم: (لم يقدم علينا من الأندلس أعلمُ من القاسم بن محمد ). وقال في شأنه ابن حزم: (وإذا سمينا القاسم بن محمد لم نباه به إلا القفال ومحمد بن عقيل الفريابي).

 

كان القاسم بن محمد مستقل النظر، وكان إذا استفتاه الناس أفتى بمذهب مالك، ولما خاطبه أحمد بن خالد في هذا وقال له: أراك تفتي الناس بما لا تعتقد، وهذا لا يحل لك، أجابه بقوله: (إنما يسألونني عن مذهب جرى في البلد وهم يتقلدونه فأفتيهم به، ولو سألوني عن مذهبي لأخبرتهم به).

 

وممن كان لا يأخذ بمذهب مالك، منذر بن سعيد البلوطي، فإنه مال إلى مذهب الشافعي، ثم انتقل إلى الأخذ بالظاهر واطراح القياس، ولغزارة علمه ورسوخ فضله قلده عبد الرحمن الناصر القضاء بقرطبة، وأخذ عليه أن لا يقضي إلا بمشهور مذهب مالك، فكان إذا جلس للفصل بين الناس قضى على مذهب مالك عملاً بما شرط عليه الخليفة.

 

وكذلك كان أبو محمد بن حزم فإنه مال إلى مذهب الشافعي، ثم انتقل إلى الأخذ بالظاهر والامتناع عن القياس بدعوى أن نصوص الشريعة تتناول كل حادثة إلى أن يأتي أمر الله، وصار لابن حزم هنالك شيعة، ومن مؤلفاته في أحكام الفقه كتاب: (المحلى بالآثار) الذي قال في وصفه عز الدين بن عبد السلام: (لم يؤلف مثله في الإسلام).

 

وإنا لنجد الكاتبين في تاريخ الأندلس يقولون في وصف كثير من علمائها: (وكان يميل إلى النظر والحجة)، أو يقولون (كان يميل في فقهه إلى النظر والأخذ بالحديث)، أو يقولون: (له اختيارات في الفتوى والفقه خارجة عن المذهب) أو يقولون: (كانت له مذاهب أخذ بها في خاصة نفسه وخالف فيها أهل قطره)

 

وهذا يدلنا على أن علماء الأندلس يتفقهون على مذهب مالك، ومنهم من يدرك مرتبة الاجتهاد أو الترجيح فيرجع إلى الحجة والدليل.

 

هذا شأنهم في الفقه أما شأنهم في أصول الفقه فقد وصفهم أبو عبد الله المقّري بأن مرتبتهم في هذا العلم كانت متوسطة، وكتب ابن حزم رسالة سرد فيها مؤلفات الأندلسيين في علوم مختلفة ولم يذكر لهم في علم الأصول، ولو كتاباً واحداً، ووصل ابن سعيد هذه الرسالة بذيل أودعه مؤلفات زائدة على ما أورده ابن حزم ولم يأت لهم بمؤلف في علم الأصول سوى مختصر المستصفى لابن الوليد ابن رشد، وقد وقفنا لبعض علمائهم على أسماء مؤلفات في الأصول ككتاب: المحصول في علم الأصول، لأبي بكر بن العربي، وكتاب: أحكام الفصول في علم الأصول لأبي الوليد الباجي، وكتاب: تقريب الوصول إلى علم الأصول، لابن جزي، وبين أيدينا اليوم كتابان من أجلّ ما تجود بهما الأنظار في هذا العلم، هما كتاب: الإحكام لأبي محمد بن حزم، وكتاب: الموافقات لأبي اسحق الشاطبي.