تمت الإضافة بتاريخ : 09/10/2017

سجن الحرية

ميادة بدوي

عائدة إلى منزلها، في ظل تزاحُم المواصلات، الحرارة تكاد تذيب ما بَقِيَ يَقِظًا من عقلها، حتى السائقُ اتفق مع الحرارة عليها فيقود سريعًا حتى تكاد العربة تنقلب من كثرة الاهتزاز، أليس لقوانين الفيزياء من حدٍّ هنا؟!

شهقةٌ، تسعمها فتُدير رأسها معها، تجمُّع من الخلق رجالاً ونساءً.. أعمارًا متفاوتة: فوق الثلاثينيات، ومن الرجال من كلَّل الشيب رأسه، رؤسهم مُحلّقَة، تكاد تسمع ما يَهمِسون به رغم علوِّ الأصوات.

هزّات الرؤوس، إيماءات الأجساد... كأنما هي صرخات تعلو، كأن الدعاء المُرسَل في حديثهم يخترق باب السماء ويتزاحم، فمِن كثرته عطَّل السحب فغدا الجو حارقًا!

كأن نبضات القلب تخلعُ الضلوع ليَخرج، فكيف عسى القلب يطمئن عليهم دون أن يكون معهم؟! ويا ليته معهم!

نظرَتْ إلى أعلى لترى ما تُحملِق فيه الأعيُن، وينطلق اللسان بلا توقُّف مُحدِّثًا، رأت ما لم تُرِدْ أن تراه! رأت، لا بل حَملقَتْ مثلهم فكاد قلبها يَنخلعُ فيخرج ليُحدِّثَ قلوبهم!

رأت العربة بل المصفَّحة الزرقاء جامعةً فلذات أكبادِهم، لا يُحدِّثونهم إلا من نافذة لا تزيد عن حجم الكتاب الصغير وقد غُلِّقَتْ فتحتها بشبكة من الحديد وعمدان حديد خلف الشبكة!

كأن النافذة المضمحلَّة ستَسمح لعقل أحدهم بالتحرُّر، فرأوا أنَّ الأفضل حبس عقولهم لا أجسادهم فحسب!

أجفلتْ، حبست دموعها قهرًا، بل شعرت أن المصفَّحة تُحيط بمن في الطريق، تحيطُ بها ومن حولها فلا يُعبِّرون عن أنفسهم، تُحيط بالأهالي فلا يُطيقون وصولاً!

لم يَطُلْ الحديث، لم تكن إلا ثوانٍ معدودة حتى رأت العربة من جانبها الآخر وقد أُغلقَتْ بقفلٍ كبير يَستعصي على من أمامه أن يفتحه، فما بالُكَ بمن خلف الباب؟!

وفى المقدمة، لم تتمنَّ أن تراه ولكن قُدِّرَ عليها كغيرها، رأته بضحكته الواسعة التي لا تنمُّ عن أيَّةِ مشاعر، بنظارته السوداء، التي لا تعلم أهي لحماية عينيه من الشمس أم من شرارة حنين وشوق الأهالي إلى فلذات أكبادهم؟

أوَيحمي عينيه من الشمس مثلما يُحاول كَبتْ أفكارهم من الوصول إلى الهواء الطلق؟

ولكن هيهات! فقد رأتْ ما لم يرَه؛ فقد رأت أفكارهم حول العربة، رأتها تحوم وتحلِّق، رأتها حرة كما يُولَدُ ابن آدم حرًّا، رأتها لعناتٍ عليه!

رأتها تعلو في سماء الكون، فأيقنتْ أن هؤلاء ما وُلدوا لتُكبَت أفكارهم ولا أقلامهم، حينها صارت مطمئنة!

التَقى الفِكرُ المُحلِّق بأخيه فأثمر وأينع!

ورحل الكابوس الأزرق...