تمت الإضافة بتاريخ : 26/04/2017

فن الكلام

علي الطنطاوي

زارني الليلة البارحة صديق لي فاستقبلته واعتذرت إليه بأني مشغول، عندي مقالة، قال: كل يوم مقالة، أو حديث؟ متى تنتهي هذه المقالات وهذه الأحاديث؟

قلت: حتى أنتهي أنا.

قال: إنك تنشر باستمرار من أربعين سنة فمن أين تجيء بهذه الموضوعات كلها؟

قلت: أسمع كلمة من تكلم، أو أبصر مشهداً في طريق، فأدير ذلك في ذهني، ولا أزال أولِّد من الكلمة كلمة، ومن المشهد مشهداً حتى يجيء من ذلك حديث أو مقالة.

قال: أرني كيف تصنع حتى أتعلم!

فضحكت وقلت: إنها عملية تتم في ذهني لا في يدي؛ فكيف أُرِيك مالا يُرَى؟.

وكنَّا قد شربنا القهوة ولكني، لم أكتف بها ووجدت أنَّها لا تزال بي رغبة إلى الشاي، وأنا كالإنكليز في هذه فقط أشرب الشاي في الصباح، وفي الأصيل، وفي الليل لا أنتهي منه حتى أعود إليه.

فقلت للبنت: قولي لأمك إن بابا يسألك: هل من آداب الضيافة أن نقدم الشاي بعد القهوة؟

فذهبت فقالت لها: بابا عاوز شاي.

قلت له: أسمعت؟ هذا موضوع حديث.

قال متعجباً: هذا؟ قلت: نعم، لقد بعثتها لتنقل إليها عبارة معناها إني أريد شاياً، ولكني جعلتها نكتة لطيفة، ليس فيها أمر وليس فيها جفاء؛ فأضاعت البنت هذه المزايا كلها حين بلغتها المعنى المجرد جافاً قاسياً كأنه أمر عسكري.

أفلا يوحي إليك هذا بشيء؟

فنظر، وقال: لا!

قلت: أما أنا فقد ذكرني بقصة الأمير الذي رأى رؤيا مزعجة، فدعا بمن يَعْبُرها له، فقال له: تفسيرها أنها ستموت أسرتك كلها، فغضب الملك، وأمر به، فجلد عشر جلدات وطُرِد.

ودعا بآخر، فقال له...أيها الأمير إن تعبير رؤياك واضح أنك أطول عمراً من أسرتك كلها؛ فسر الأمير وأمر أن يعطى عشرة دنانير.

والمعنى واحد ولكن هذا قذف به في وجه الأمير عارياً صلداً كأنه يقذفه بحجر فخرج مضروبًا.

وذلك لفه بثوب جميل من حسن التعبير، وقدَّمه إليه بيمينه برفق وتعظيم؛ فخرج بالجائزة.

إن هذا هو الموضوع؟

قال: إني لم أفهم شيئاً إلى الآن؟ فما هو الموضوع؟

قلت: فن الكلام.

إن الإنسان كما يقولون حيوان ناطق، وليس النطق أن يخرج الحروف، ويصفَّ الكلام، بل أن يعرف كيف يتكلم، ورُبَّ كلمةٍ تدخل الجنة، وكلمةٍ تدخل النار، وكلمةٍ أنجت من القتل، وكلمة دفعت صاحبها إلى القتل، وربَّ صاحبِ حاجةٍ عند وزير أو كبير عرف كيف يطلبها؛ فقضيت له، وآخرَ طلبها فلم يصل إليها.

وكثيراً ما كان يقصدني أرباب الحاجات يسألونني أن أكلم لهم من أعرف من الوزراء والكبراء وأنا أكره أن أسأل في حاجة لي أو لغيري؛ فكنت أعتذر إليهم، ولكني أفيدهم فائدة أكبر من وساطتي، هي أن ألقنهم الكلام الذي يقولونه للوزير أو للكبير، ولولا أن الوقت يضيق عن التمثيل لضربت لذلك أمثالاً.

وفي كتب الأدب العجائب في هذا الباب ولعلي أعود إلى الكلام فيها يوماً.

وهذا فن لا يُتَعَلَّم تعلماً، ولكن يوصل إليه بالقلب الذكي، وبأن تعرف خُلقَ مَنْ تكلمه والطريق إلى نفسه.

وكل نفس لها باب، وإليها طريق، لم يخلق الله نفساً مغلقة لا باب لها، فهذا يدخل إليه من باب التعظيم، وهذا من باب العاطفة، وهذا من باب المنطق، وهذا من باب التهديد والتخويف، وهذا يزعجه التطويل ويحب الاختصار، وهذا يؤثر الشرح والبيان، ولا بدَّ لك من قبل أن تكلم أحداً أن تعرف من أي باب من هذه الأبواب تدخل عليه.

ولا أذهب بك بعيداً معك في الدار، أليس لك أولاد؟

قال: بلى.

قلت: قد يجيئك ولدك وهو عابس مبرطم الكلمة عربية فيقول لك بلا سلام ولا كلام: أبغي نصف ريال.

فتقول له: أما أخذت البارحة نصف ريال؟ أكل يوم نصف ريال؟ وتطرده.

ويجيء الولد الآخر فيقبل يدك، ويُسَلِّم عليك، ويقول لك: بابا أنا أشكرك؛ لأنك أعطيتني أمس نصف ريال، ولكني أنفقته وأنا أريد غيرها، ولكني مستحي منك، وسأقتصد، ولن أنفقها كلها مثل المرة الماضية.

فتقول له: لماذا تستحي مني؟ هل يستحي أحد من أبيه؟ خذ هذا ريال.

إنك لا تفضل ولداً على ولد، ولا تبخل بنصف الريال، ولكن الأول أساء الأدب؛ فعاقبته بالحرمان، والثاني أحسن الأدب؛ فأجبت له الطلب.

والمرأة الحكيمة التي تعرف خلق زوجها، وتعرف كيف تكلمه تصل إلى كل ما تريده منه، والمرأة الحمقاء تحرم نفسها من كل شيء.

الأولى تعرف الوقت المناسب لعرض طلبها، فلا تجيء زوجها وهو غضبان أو متضايق، بل تنظر ساعة رضائه، وانطلاق نفسه، فتطلب منه، ولا يكفي الرضا منه، بل يجب أن يكون مع رضا النفس امتلاء اليد؛ فإذا كانت تعلم أن الزوج ليس لديه من المال ما يلبي به الطلب لم يفدها حسن العرض، ولا جمال القول.

وليست العبرة بألفاظ الكلام فقط، بل باللهجة التي يلقى بها هذا الكلام والتحية إن ألقيت بلهجة جافة كانت شتيمة، والشتيمة إن ألقيت بلهجة حب كانت تحية، والولد الصغير يعرف هذا بالفطرة، إن قلت وأنت ضاحك أخ يا خبيث سُرَّ وابتسم، وإن قلت وأنت عابس مهدد: تعال يا آدمي يا منظوم خاف وهرب.

وإن قلت لصديقك في الدار: تفضل اقعد كانت مكرمة، وإن قالها رئيس المحكمة للمحامي في وسط دفاعه كانت إهانة.

مع أن الكلمة واحدة وإن كتبت لم يكن بين حاليها اختلاف، وما نقلها من حال إلى حال إلاَّ اللهجة.

وخذ مثلاً أقرب كلمة صباح الخير.

إنَّ صباح الخير قد يكون معناها إني لا أبالي بك، ولا أحس غيابك، ولا حضورك؛ وذلك إن قلتها ووجهك خالٍ من كل تعبير، وصوتك خالٍ من الحرارة، كأنك تردد جملة محفوظة.

وقد يكون معناها إني أعطف عليك ولكني أراك دوني، وأحس أني أرفع منك إن قلتها وأنت باسم بسمة دبلوماسية، وقد أحنيت رأسك ربع سانتي انحناءة مُصْطَنَعَة.

وقد يكون معناها إني صديقك المخلص لك إن قلتها بابتسامة صادقة وبلهجة طبيعية.

وإن برقت عيناك وأنت تقولها، وارتجف صوتك حتى كأنه صوت =أحمد علام+في رواية مجنون ليلى كان معناها: إني أعشقك، وأموت حباً فيك.

وقد يكون معناها، إني أحتقرك وأزدريك إن قلتها وأنت مُصَعِّر خَدَّك زاوٍ نظَرك، شامخٌ بأنفك.

وقد يكون معنى صباح الخير: سبَّ الأب؛ فإذا عوتب القائل قال: =وهل شتمته، هل قلت له شيئاً؟ إنما قلت له صباح الخير+.

وقد يكون للكلمة أحياناً عكس معناها، الذي يدل عليه لفظها، يفهمُ ذلك من قرائن القول، وظروف الكلام؛ فإذا خرجت من الوزارة أنت وزميلك، فاصطحبتما في الطريق، حتى بلغت دارك، تقول له: تفضل معنا.

فيقول لك: في أمان الله؛ لأنَّ " تفضل معنا" هنا، معناها: فارقنا واذهب عنَّا؛ بدليل أنه لو أخذها على حقيقتها وتفضل معك لضقت به؛ واستقبلته(2)وعجبت منه.

وقد يطيل الزائر السهرة، ثم يتهيأ للقيام فتقول له: بدري "كمان شوي" ومعنى ذلك: لقد أطلت فاذهب.

وإذا مللت من حديث محدثك، تقول: "لا يمل" وهو في الحقيقة قد مَلّ.

وتقول: "غير مقطوع حديثك" وقد قطعته وفصلت رأسه عن جسده، أو بترت ذنبه عن جسمه.

وقد يفقد الكلام كل معنى، ويصير جُمَلاً فارغة، كقولك لمن تلقاه.

كيف حالك؟

ولا يهمك حقيقة أن تعرف حاله ولا ماله.

ويقول لك: مشتاقون، وما هو بالمشتاق إليك، ولا المفكر فيك.

ويقول: طمني عن الصحة؟.

كأن صحته تشغل فكرك، وتطرد النوم عن عينيك ولا تطمئن حتى تثق بكمالها وتمامها.

كنت مرة خارجاً من المستشفى، بعد عملية جراحية، لا أزال أقاسي آلامها، فلقيني صديق لي فقال: كيف الصحة؟

فظننته يسأل عنها حقيقة ورحت أشرح له ما بي، و أصور ما أجد وتكلمت خمس دقائق بمقدار حديثي في الإذاعة على مائدة الإفطار في رمضان فلما انتهيت سكتُّ، ونظرت إليه أسمع منه، فقال: كيف الصحة إن شاء الله بخير.

وإذا به لم يسمع من شرحي وبياني شيئاً.

ودليل آخر، هو أسلوب التحية هنا وفي مصر وفي الشام يقول لك، من تلقاه. كيف أصبحت؟ كيف الأولاد، فتجيبه بما تيسر، فيعود فيقول: وكيف أصبحت؟ وكيف الأولاد؟

يعيدها كما تعاد " ازيك" في مصر، و" ايش لونك" في الشام والعراق، سبع عشرة مرة على الأقل؛ فلا تدري بماذا تجيب.

ومن الكلام الذي لا يدري المراد منه سؤال إخواننا الصحفيين كل من يلقونه، في كل مناسبة، وفي غير مناسبة، "عن شعوره" عند رؤيته هذا المشهد، و" انطباعه" وما أدري ما معنى =انطباعه+ لذلك الحادث.

ولو حققت عن مراد السائل من سؤاله، وجدت السائل لا يعرف حقيقة ما يريده، فضلاً عن أن يعرفه المسؤول.

ولهجة الكلام وملامح الوجه، تقلب المعنى قلباً؛ تصوروا رجلاً يدخل المأتم الحزين، وهو باسم الثغر، منطلق الوجه، ويقول بلهجة مرحه: " عَظَّم الله أجركم، والله تألمنا لمصابكم"، أو يدخل الفرح وهو دامع العين، ويقول بلهجة باكية: "لكم تهانينا، إننا فرحون لفرحكم".

إن من يسمعه، يقول إنه أحمق، أو كاذب، ومثله مثل هؤلاء المغنين الذين يسمون أنفسهم قراء وما هم بالقراء، يتلون آية العذاب من كتاب الله التي تقشعر لها الجلود بصوت مرح ونغمة مرقصة، ويتلون آية البشرى والنعيم بنغمة حزينة وصوت باك.

وإن من إمارات الحكم على شخصية إنسان لهجة كرمه، فمن كان يتكلم بصوت هادئ ولهجة متزنة، وحروف واضحة، كانت له شخصية المهذب النبيه، ومن كان مرتفع الصوت، حاد اللهجة يتشدق في كلامه، أو يمط الحروف لم تكن له هذه الشخصية، وقد ترى امرأة جميلة الوجه وأخرى دونها جمالاً، ثم تسمع كلامهما، فتجد الأولى خشناً ولهجتها قاسية، وهي مسترجلة في نطقها، وتجد للثانية صوتاً رقيقاً ولهجة ناعمة ونغمة حبيبة، فيزيد في عينيك جمالها حتى لتجدها أجمل من صاحبتها بل ربما شوه كلام الأولى صورتها في بصرك حتى رأيت جمالها قبحاً.

قال صاحبي: لقد اكتملت المقالة.

قلت: نعم، وكان موضوعها جديداً، هو =فن الكلام+.

ــــــــــــــ

(1) من كتاب صور وخواطر ص(280286)، وقد نشرت في حدود عام 1387هـ.

(2) لعلها:واستثقلته (م).