حديث القرآن عن القرآن
محمد بن عبد الرحمن الراوي
مما جادت به المكتبة القرآنية كتاب بعنوان (حديث القرآن عن القرآن) وهو كتاب سعى مؤلفه للتتبع الآيات القرآنية التي تتحدث عن القرآن نفسه، فبين من خلال هذا الكتاب أن حديث القرآن عن القرآن فيه بيان لهدايته ومقاصده، ودعوة إلى حسن تدبره والعمل به، فهو حق يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
وقد أوضح المؤلف أن حديث القرآن عن القرآن لم يكن وقفاً على سورة بعينها، وإن سميت سورة منه باسم من أسمائه، هي سورة الفرقان، التي بُدئت بقوله سبحانه: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} (الفرقان:1).
فقد جاء حديث القرآن عن القرآن متضَمَّناً في كثير من آياته؛ فبدئت سور كثيرة بالحديث عنه؛ تنويهاً به وتعظيماً لشأنه، من ذلك قوله سبحانه: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} (البقرة:1-2). وقوله تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} (هود:1) ونحو هذا غير قليل.
وقد يأتي حديث القرآن عن القرآن في أواخر السور، كما جاء في أولها، من ذلك قول الباري سبحانه: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (يوسف:111). وقوله تعالى: {هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب} (إبراهيم:52).
وقد يأتي الحديث عن القرآن مُقْسَماً به، أو مقسماً عليه؛ فمن الأول قوله عز وجل: {ق والقرآن المجيد} (ق:1) ومنه أيضاً قوله سبحانه: {ص والقرآن ذي الذكر} (ص:1). ومن الثاني قوله جل وعلا: {فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون} (الواقعة:75-78). وقوله تعالى: {والسماء ذات الرجع * والأرض ذات الصدع * إنه لقول فصل * وما هو بالهزل} (11-14).
وقد يأتي الحديث عن القرآن مُقْسَماً به ومُقْسَماً عليه، كما في سورتي الزخرف والدخان، ففي الأولى قوله سبحانه: {حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} (الزخرف:1-3) فأقسم سبحانه هنا بالقرآن الموضح لما اشتمل عليه من العقائد والأحكام؛ إعلاماً برفعة قدره، وعلو شأنه أنه سبحانه أنزل الكتاب قرآناً عربياً؛ لكي يستطيعوا تدبر معانيه، والعمل بما جاء فيه. وفي الثانية قوله عز وجل: {حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين} (الدخان:1-3) فأقسم سبحانه هنا بالكتاب المبين على أنه أنزل القرآن الكريم في ليلة وفيرة الخير، كثيرة البركة؛ لأن من شأنه سبحانه أن ينذر الناس قبل أن يأتيهم العذاب.
وقد ذكر المؤلف أن هذا التنوع وهذا التفصيل في حديث القرآن عن القرآن له دلالته في تدبر كل آية من آياته؛ فإن الصفات التي وُصِف بها القرآن -وإن بدا أنها تكررت- لا يمكن النظر في دلالتها بعيداً عن سياقها في الآيات التي وردت فيها؛ فإن لكل صفة معانيها في ذاتها، ولها نورها عندما تأتي في آية من آيات القرآن؛ فإنها تريك ما لم تكن تراه، وتعلم بها ما لم تكن تعلمه.
ومما أورده المؤلف في هذا الصدد أن حديث القرآن عن القرآن يُستفاد من دلالة صفاته عند الوقوف عليها منزَّلة في آياته، وتدبر الآيات في سياقها غير تدبر الصفات التي ترد فيها بمفردها، والقرآن الكريم لا يمكن تجريد صفاته عن آياته.
فكلمة {هدى} مثلاً -وهي من صفات القرآن- من أكثر الكلمات وروداً في القرآن الكريم. والحديث عن كلمة {الهدى} بعيداً عن موقعها في الآيات لا يحقق الإفادة بها، كما تتحقق في صلتها بالآيات؛ فالآيات هي التي تبين مَن يكون القرآن الكريم لهم {هدى} ومن يكون عليهم {عمى} وهي التي تجعلنا نقف على (هداية) القرآن في وقائع، وأحداث، وعقائد، وفرائض، ومعاملات، وحدود، وحقوق، وواجبات.
من أجل ذلك يقول المؤلف: "رأيتني وأنا أتابع حديث القرآن عن القرآن، ألتمس ذلك من القرآن كله، أقتبس منه، واستشهد به، وأسترشد بهدايته، وأستبصر بنوره. فما من شأن إلا وللقرآن فيه كلمة، ولا عمل إلا وللقرآن فيه تبصرة وموعظة...بل تراه -وأنت تؤمن به- مؤنساً لك، مسريًّا عنك، يمدك بطاقة لا تنفد من الثقة في الله، وحسن التوكل عليه. وترى نفسك -في طوفان الحياة الغامر- في حاجة إلى الاستمساك به؛ طلباً للنجاة. في حاجة إلى نوره؛ لتدفع عن نفسك ظلمات الشبهات والشهوات والأهواء".
إن حديث القرآن -وأنت في صحبته- يجعلك تراه أمامك نوراً تبصر به الأشياء على حقيقتها، يحدد لك المعالم، ويبصرك بما يجب أن تكون عليه، {ويهديك صراطاً مستقيما} (الفتح:2) ولا يدعك في أي موطن كنت دون هداية وتبصرة...إعذار وإنذار يقدمه حديث القرآن عن القرآن، فطوبى لمن استبصر به، واهتدى بهداه، وويل لمن أعرض عن ذكره، {واتبع هواه، وكان أمره فرطا} (الكهف:28).
وختم المؤلف مقدمة كتابه بقوله: "ولقد تابعت حديث القرآن عن القرآن في كتاب الله عز وجل، وأفدت منه، ودعوت الله أن يعينني على أن أقدمه للناس؛ رجاء أن نعتصم جميعاً بحبله، ولا نتفرق، وأن نهتدي في جميع شؤوننا بهداه".
مسلك المؤلف في كتابه
اتخذ المؤلف مسلكاً في تناول موضوع كتابه، يقوم على ذكر الآيات المتضمنة حديث القرآن عن القرآن بحسب ترتيب السور القرآنية، فيأتي مثلاً على سورة البقرة، ويتناول منها كل آية تحدثت عن القرآن، فيبين بداية المعنى اللغوي لمفردات الآية، ثم يذكر ما ورد فيها من مأثور التفسير، ثم يعطف على بيان وجه حديثها عن القرآن، وهو الغرض الرئيس من كتابه.
وقد أتى المؤلف على معظم سور القرآن الكريم، من جهة تضمنها لآيات تتحدث عن القرآن، ما خلا السور التالية: الفاتحة، التوبة، مريم، الأحزاب، الصافات، الفتح، الحجرات، الذاريات، النجم، المجادلة، الممتحنة، المنافقون، التحريم، المعارج، نوح، المرسلات، النبأ، النازعات، عبس، الانفطار، المطففين، الطارق، الأعلى، الغاشية، الفجر، البلد، الشمس، الليل، الضحى، الشرح، التين، وسورة الزلزلة إلى سورة الناس.
مثال من عمل المؤلف
ومن الأمثلة لعمل المؤلف ما ذكره من حديث القرآن عن القرآن في قوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون} (الأنعام:216).
يقول المؤلف: "إن كلمة {مبارك} يوصف بها الماء كما يوصف بها هذا الكتاب، قال تعالى: {ونزلنا من السماء ماء مباركا} (ق:9) وكلنا يدرك إلى أي حد تنتهي بركة الماء، وإلى أي مدى تمتد بركة هذا الكتاب المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه. فبركته -بحمد الله- ثابتة وممتدة.
وإذا كانت الأرض الطيبة تقبل الماء، فتنبت الكلأ، والعشب الكثير، فإن النفوس الطيبة -بفضل ربها- تتقبل وحي الله، وتؤمن بآياته، فتنبت العمل الطيب، وتثمر الخلق الحسن. تتحرك بإيمانه، وتنبعث بيقينها، ويؤازر بعضها بعضاً؛ تعبداً لله، وطاعة لأمره {كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه} (الفتح:29) وكثيراً ما نجد الحديث عن القرآن الكريم يتجاور مع الحديث عن (الماء) في كتاب الله عز وجل. وهذا التجاور يلفت نظر المتدبر إلى ما بينهما من مناسبة. والرسول صلى الله عليه وسلم يبين ذلك بقوله: (مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضاً) متفق عليه. إن إيمان الإنسان بهذا، واستجابته لما دعاه إليه ربه، يحقق له الحياة، كما أن تقبل الأرض للماء يحييها من بعد موات {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} (الحج:5) إلا أن أثر (الماء) في تحقيق الحياة محدود بأجل.
ولكن آثار القرآن تمتد مع الإنسان، ولا تتخلف عنه في موت، أو بعث، أو حساب، أو جزاء، ألم يقل صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) رواه مسلم. وأفلم يقل أيضاً: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة، وأهله الذين كانوا يعملون به، تَقْدُمُه سورة البقرة، وآل عمران...تحاجان عن صاحبهما) رواه مسلم. وأولم يقل كذلك: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها) رواه أصحاب السنن إلا النسائي.
تلك هي بركة القرآن لمن اهتدى به، تمتد ولا تنقطع، وتدوم مع الإنسان في موت، وبعث، وحساب، وجزاء. نور لصاحبه، وحرز من النار. رفعة وارتقاء في درج الجنة بقدر ما حفظ وعمل. (اقرأ، وارتق) أي في درج الجنة بقدر ما حفظت من آي القرآن، فأنعم به من صاحب، وأكرم به من محفوظ وحافظ، ومن محبوب يُدخل صاحبه الجنة بفضل الله ورحمته، ومن وفيٍّ لا يتخلى عن صاحبه عندما يفرُّ المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، كتاب مبارك لا تنقطع بركته، ولا يتوقف عطاؤه، ولا ينطفئ نوره، ولا يضيع صاحبه، فاحفظ -أخي المسلم- كتاب ربك، وحافظ عليه، واجعل لسانك رطباً به، فإنه أفضل ذكر تذكر به ربك، واحذر هجره والإعراض عنه؛ فإن في كل حرف منه أجراً أيَّ أجر. ولا تجعل قلبك محروماً بتركه؛ فـ (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وكن متبعاً لهداه؛ فإن من اتبعه قاده إلى الجنة، ومن أعرض عنه شقي في دنياه وأخراه".
الكتاب من تأليف محمد بن عبد الرحمن الراوي، وقد صدرت طبعته الأولى عن مكتبة العبيكان، سنة 1415هـ-1994م، وبلغ عدد صفحاته اثنين وسبعين وخمسمائة صفحة (572)، وأذيع في حلقات من إذاعة القرآن الكريم بالرياض. |