تمت الإضافة بتاريخ : 03/01/2017

طرق تربية الذات على التدبر

فاطمة بنت محمد الشاشي

إن من يروم أن يكون فقيهًا باصطلاحنا فأولى ما يوجهه الفقهاء بتنمية الملكة الفقهية، وهكذا التدبر فهو ملكة علمية تُنَمَّى كذلك، ولا يتصور تنميتها بين عشية وضحاها، بل تحتاج مُددًا طويلة وهذا ما يفسر لنا مكوث ابن عمر رضي الله عنه ثمان سنين في تعلم سورة البقرة([1]) مع ما أوتوا من قوة حافظ.

ويذكر أسلافنا رحمهم الله جملةً من طرق تربية الذات على التدبر ويجدها المتتبع لكلامهم بالاستقراء، فليس ما نكتبه بدعًا من تلقاء أنفسنا.

وبين يدي هذه الطرق ينبغي أن يُذَكَّر بهذه القاعدة التي أصَّلَها ابن تيمية فقال: "بيان الأفضل له لا يمكن ذكره في كتاب، بل لا بد من هداية يهدي الله بها عبده إلى ما هو أصلح، وما صدق اللهَ عبدٌ إلا صنع له" فلذلك فإن سؤال ما الأفضل من بين هذه الطرق ينبغي أن يتوجه بها إلى الله لا إلى البشر ولو كانوا طلاب علم أو علماء.

ولكي تثمر وتؤتي هذه الطرق أُكُلها فلا بد من الصدق مع الله وأن يتوجه المرء إلى ربه: ?وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ?، وهكذا يكون دأب المؤمن في كل أموره العلمية؛ يقول ابن سعدي رحمه الله: "الناظر في العلم عند الحاجة إلى العمل أو التكلم به، إذا لم يترجح عنده أحد القولين فإنه يستهدي ربه ويسأله أن يهديه إلى الصواب من القولين بعد أن يقصد الحق بقلبه ويبحث عنه، فإن الله لا يخيب من هذه حاله"..

ثم يأتي بعد الإخلاص في تنمية ملكة التدبر تعظيمُ المتكلم به تبارك وتعالى، وفيه يقول الغزالي: "ولن تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكر في صفاته وجلاله وأفعاله، فإذا حضر بباله العرش والكرسي والسموات والأرض وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار، وعَلِم أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد، وأن الكل في قبضة قدرته مترددون بين فضله ورحمته وبين نقمته وسطوته، إن أنعم فبفضله وإن عاقب فبعدله، وأنه الذي يقول هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، وهذا غاية العظمة والتعالي، فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ثم تعظيم الكلام"

ومنها: تعلم حسن الأداء، وهو الجمع بين المهارة في أداء الحروف، والغوص في معاني الآيات والتبحر في مقاصدها، فظواهر الأداء من وَقْفٍ ومَدٍّ وقَصْرٍ تجسد الصورة المعنوية لكل كلمة، وهو من سبل فهم القرآن، والتنقلُ بين الحروف بلطف والإشارةُ إلى المعاني بشفافية والتدرجُ في الدرجات الصوتية المنبئة عن الدلالات التصويرية برفق كلُّ هذا مما يلبس التلاوة أجمل الحلل، ولا يمكن بلوغه إلا بالتلقي والرواية: ?وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ?، وأما ما يجده بعض الناس من أن اهتمامهم بالتجويد يصرفهم عن التدبر فهذا في أول الأمر وينقشع مع المجاهدة، فإعطاء كل حرف حَقَّه ومُستحَقَّه لَـمُعينٌ على التدبر لا صارف عنه، ومن أراد التوسع في هذا الجانب فليطلع على كتاب "إبراز المعاني بالأداء القرآني" للدكتور إبراهيم الدوسري وفقه الله، فهو أول مَن تَطَرَّق لهذا في مؤلفٍ مستقل وجمع أشتاتها.

ومنها: قراءة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن واستماعه وتدبره للتأسي به، وكذلك قراءة أخبار المتدبرين من أصحابه وأتباعهم وأعلام هذه الأمة.

ومنها: التخلي عن موانع فهم كتاب الله، وأعظمها الإصرار على ذنب أو اتصاف بكبر؛ يقول الله تبارك وتعالى ?سَأَصرِفُ عَن آياتِيَ الَّذينَ يَتَكَبَّرونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ?، واشترط الله في كتابه الإنابة في الفهم والتذكرة فقال ?تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ?.

ومنها: تعلم العلوم اللازمة لفهم الكتاب، ولسنا نطلب التبحر فيها، بل يتعلم منها القدر الذي يحتاجه في تدبر القرآن، والوسائل لها أحكام المقاصد.

ذكر المروزي رحمه الله في كتابه قيام الليل أن عمرَ رضي الله عنه رأى راهبا، فبكى وقال: "ذكرت قول الله: ? عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ?3? تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً  ?، فذاك أبكاني" وهذا الموقف يعلمنا طريقًا من طرق تربية الذات على التدبر وهو العيش مع القرآن بالاستحضار الدائم للآيات، فإذا حلت بالإنسان مصيبة فزع إلى القرآن وقرأ آيات الصبر: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ?، وإذا تجددت له نعمة قرأ: ?اعْمَلُوا  آلَ دَاوُودَ شُكْرًا?.

ومنها كذلك: حضور مجالس التدبر في المساجد، وإذا تعذر حضورها للمرء فلا أقل من حضور مجلس المدارسة الأسبوعية التي يعقدها مركز تدبر في مُعَرِّفه بتويتر.

ومن طرق تربية الذات على التدبر: القراءة في الأبحاث والدراسات المعاصرة التي اعتنت بهذا الموضوع، ومنها إصدارات مركز تدبر ولا أقل من سلسلة "ليدبروا آياته" فهي تجمع للمرء تدبرات علماء وطلاب علم، وتكون له مفتاحًا في قراءة تدبرات العلماء.

وقد ذكر بعض الباحثين المعاصرين أن من طرق التدبر تعلمُ مهارات التفكير، ونزيد عليها ونقول: تعلم طرق الدلالة في علم أصول الفقه فهي نافعة جدًا.

وبعد فطرق تربية الذات مما يفتح الله به على العبد إن علم صدقه كما نقلنا عن ابن تيمية رحمه الله: "لا بد من هداية يهدي الله بها عبده إلى ما هو أصلح، وما صدق الله عبد إلا صنع له" فليس المراد من المقال الحصر وإنما بعض الدلالة على أشهر طرق تربية الذات على التدبر والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

 _____________

([1]) رواه مالك في الموطأ ح (695).