fiogf49gjkf0d اللسان طريقك إلى الإسعاد والإحسان
كان هناك ملك يحب العمل حبا عظيما, وله ابنة وحيدة, رحلت أمها عن الدنيا بعد مولدها بأشهر قليلة.
وقد لاحظ أن الأميرة الصغيرة ريهام حزينة, شاردة الفكر, تميل إلى العزلة. وزاد قلق الملك وإشفاقه عليها بعد أن عجز دواء مهرة الأطباء عن علاجها مما يظن أنه مرض ألم بها. وباح لمستشاره الوفي الأمين بما يضيق به صدره, فهون عليه الأمر, ورأى أن شيئا من الترفيه سيشفي نفس الأميرة ويسرها, واقترح عليه أن يدعو إلى قصره فرقة جوالة, تقدم التمثيليات المضحكة. راقت الفكرة للملك, واستضاف تلك الفرقة, ودعا إلى مشاهدتها كبار رجال البلاط وعائلاتهم.
جلس الملك والأميرة والمدعوون يشاهدون الممثلين وهم يتبارون في استعراض مواهبهم الباهرة في الإضحاك. كان الملك يبتسم, ويغلبه الضحك ويقهقه, ومن وقت لآخر يختلس الملك نظرة إلى الأميرة فيراها عابسة ضجرة, لا تكاد تشعر بالفرح, فلا ابتسامة تجد الطريق إلى شفتيها, أو شيء من عدوى الضحك ينتقل إليها. وفوجئ الجميع بأميرتهم تجتاز قاعة العرش مهرولة, تجهم الملك وقد ساءه تصرف ريهام, ومضى إلى حجرتها بعد نهاية الحفل, وأخذ يلومها, لأنها تركت ضيوفها بهذه الطريقة غير اللائقة.
أطرقت الأميرة وبكت, فرق لها قلب أبيها, وجعل يهدئها ويسألها في رفق عن سر حزنها, فتحملق فيه ببراءة ولا تجيب. سار الملك إلى حجرة نومه والهموم تثقل خطواته, والدموع تبلل لحيته, وبات مؤرقا يفكر بالأميرة الحزينة.
في الصباح تأهب الملك لمهمة جديدة :
فتنكر ومستشاره في زي تاجرين, وانطلقا إلى إحدى المدن ليتحققا من شكاوى بعض التجار هناك. وبينما كان يتفقد سوق تلك المدينة, رنت في أذنه ضحكات شديدة الصفاء والعذوبة, فأرهف سمعه, وراح يتلفت حوله, لتقع عيناه على بنت في مثل عمر ريهام, تضحك في سعادة, وإلى جوارها كهل في ملابس تدل على رقة الحال, تجمعهما مائدة أمام دكان تعلوه لافتة مكتوب عليها: (مطعم السعادة). اتجه الملك من فوره إلى ذلك الدكان, واحتج مستشاره وقال في تأفف:
- هذا مطعم يبيع أنواع اللحوم الرخيصة الرديئة مثل لحم الرأس واللسان وهو لا يليق بمولاي الملك ، وجاء رد الملك حاسما - سنجلس وسنأكل أيضا.
خف صاحب المطعم إليهما مبتسما مرحبا, وأخذ يعدد للملك ما عنده من أصناف الطعام. وفي النهاية طلب الملك شيئا من لحم الرأس وثريدا بالخل والثوم.
صفق الكهل الجالس مع البنت بيديه وصاح بصوت منغم عذب النبرات كأنه الغناء:
- طبق لسان.. يا أبا حسان.
جاوبه صاحب المطعم في النغمة والإيقاع أنفسهما ولكن بصوت أجش قبيح موجها نداءه لصبي واقف أمام قدر كبير:
- هات المطلوب.. لعم محبوب.. والحلوة عندليب.
انتهز الملك الفرصة وهمس لصاحب المطعم:
- من صاحب هذا الصوت الجميل? أمطرب هو?
أجابه بأنه حمال يعمل في هذه السوق, وزبون دائم لمطعمه, يأتي ليتناول غداءه مع ابنته عندليب كل يوم.
جاء الطعام, وشرع الملك يأكل, ومستشاره يشاركه في اشمئزاز. وفي أثناء ذلك كانت عينا الملك تسترقان النظرات إلى محبوب وعندليب, وهما يتهامسان ويبتسمان, فيخطر بباله وجه ريهام الحزين, وفكر الملك في حيلة, دنا من الحمال وأخذ يتأمل وجهه مصطنعا الدهشة, ضاربا كفا بكف, ثم صاح:
- محبوب! يا للمصادفة السعيدة!
تظاهر الملك المتنكر بأنه يعرف الحمال, وأخبره أنه تاجر غلال استأجره ذات مرة ليحمل بضاعة له, فصدقه محبوب, لأنه إنسان بسيط, ودود, وبعد حديث قليل عن أحوال الرزق والعمل, أنس إليه الحمال الكريم, وأصر على أن يشاركه الطعام.
وجد الملك الوقت مناسبا فطرح سؤاله على الحمال متلطفا عن سر سعادة ابنته والبسمة الجميلة التي لا تفارق وجهها. أجاب الحمال وهو يضع قطعة لسان أمام الملك:
- اللسان يا صاحبي.. اللسان هو كل شيء ، هز الملك رأسه دهشا وهو يمضع قطعة اللسان.
ظل الملك يفكر طول الطريق: يا ترى هل أكل لحم اللسان هو سر سعادة عندليب كما زعم محبوب? فليجرب هذا الوصفة الغريبة, فكم من وصفة شعبية يشهد بنفعها الأطباء.
بمجرد أن عاد الملك إلى قصره استدعى كبير الطهاة, وأمره أن يكون طعام الأميرة منذ هذه الساعة لسانا في لسان. وهكذا صار إفطار ريهام وغذاؤها وعشاؤها لحم لسان, يتفنن الطاهي في إعداده على أشكال وألوان, ويقدمه لها مسلوقا او مقليا أو مشويا, يضعه في الأرز, أو يغرقه في الصلصة, وينثر عليه التوابل. وما أكثر ما أكلت ريهام من ألسن الأبقار والثيران والمعز والخراف والحملان.. حتى الغزلان. كانت تأكل ولا تسأل, فالطعام شهي, وأبوها يشاركها فيه, وهي لا تدري أنه يراقب أحوالها وينتظر النتيجة.
ولكن لا شيء تغير أو تحول, فمازالت الأميرة على حالها من الحزن والملل. وذات يوم نفد صبر الملك, وامتلأ بالغضب, وأرسل حراسه ليأتوا له بالحمال على عجل. وجيء بالحمال محبوب, وعندما وقف أمام الملك تذكر أنه هو نفسه التاجر الذي لاقاه في المطعم, فتملكه الخوف, وصاح به الملك:
- أيها اللئيم الكذاب.. لقد خدعتني وادعيت أن اللسان هو سر سعادة ابنتك وأنه كل شيء.. وسآمر بحبسك في الحال.
قال الحمال في توسل:
- العفو يا مولاي.. والله ما خدعتك أو كذبت عليك.. اللسان هو فعلاً كل شيء.. هو سر سعادة الإنسان ومن حوله أو تعاسته وشقائهم.
قال الحمال ذلك وأشار إلى فمه, فتعجب الملك وأمره أن يبين ماذا يعني.
قال الحمال:
- أقصد باللسان اللغة والكلام.
هدأت ثورة الملك, وسمح لمحبوب بأن يحكي حكايته, فأخبر الملك أن ابنته الوحيدة عندليب نشأت يتيمة الأم, فتعهدها بالرعاية, وصار لها أباً وأماً, وأصبحت غايته من الدنيا إسعادها, فهو يداعبها, وينتقي أعذب الكلمات وأطيبها حين يناديها أو يخاطبها, ويصحبها كثيرا للنزهة, ويجلس إليها في أوقات فراغه, يسليها ويسعدها بما يقص عليها من ذكرياته, ومن مواقف طريفة مرت به أثناء عمله, ويضيف إليها من خياله ما يزيدها تشويقا وطرافة, وبذلك يكون اللسان بمعنى لغة الكلام هو سر سعادة عندليب.
أعجب الملك بحديث محبوب وأمر له بمكافأة كبيرة. ومنذ ذلك اليوم والملك يعامل ريهام كما يعامل الحمال عندليب, فيقتطع من وقته ساعة يخلو فيها بابنته, في شرفة القصر أو حديقته, ويحكي لها عن حروبه القديمة, ومغامراته في رحلات الصيد, وعن البلاد الكثيرة التي زارها وكل عجيب وطريف من معالمها وآثارها وطباع أهلها وعاداتهم, ويشاركها اللعب, ويقرأ عليها القصص المسلية. وسرعان ما ظهرت النتيجة المدهشة, فقد تبدل حال الأميرة, وخرجت من عزلتها, وزال حزنها, وأشرق وجهها بالابتسام, وانطلقت ضحكاتها المرحة في أرجاء القصر. ومازال الملك يحكي لها, ويشكر الله, ويذكر بكل حب وتقدير, ذلك الحمال الفقير.
_________________
متابعات fiogf49gjkf0d |