fiogf49gjkf0d التربية البيئية... ومسؤولية المؤسسات التربوية
أ.د. ماهر فاضل القيسي
إذا كان العقد السابع من القرن العشرين قد شهد بدايات الاهتمام الدولي بقضايا التربية البيئية، فإن الألفية الثانية التي يشهد العالم بدايتها الأولى لاتحتم استمرار الاهتمام فحسب، بل اتخاذ الإجراءات والخطوات الكفيلة للارتقاء بمستوى الوعي البيئي للإنسان، وتزويده بالمعرفة البيئية التي تمكنه من فهم عناصر البيئة والمشكلات المرتبطة بها. وإكسابه الاتجاهات والقيم والمهارات التي تزيد من مشاعره نحو الاهتمام بالبيئة والمساهمة الفعالة في حمايتها وتحسينها.
إجراءات كهذه تحتمها طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الإنسان والبيئة، فإن امتلك الإنسان إرادة الاهتمام بالبيئة وصونها من المخاطر والتهديدات، وإرادة التوقف عن الاعتداء والتجاوزات الجائرة على مواردها الطبيعية، والوعي المدرك لمشكلاتها وقضاياها ومكنوناتها، وتحمل المسؤولية الأخلاقية للتفاعل الإيجابي معها، فإنه يتجه عملياً في الاتجاه الذي يضمن التقدم والرخاء لحياته كإنسان، والحفاظ على سلامة أمنه الشخصي، وحمايته من التداعي والمخاطر التي يمكن أن تصيبه جراء اختلال توازن النظام البيئي.
إن التربية البيئية بوصفها عملية تستهدف تحقيق التوافق والتناغم والانسجام بين الإنسان ومحيطه، وتنظيم علاقته ببيئته الطبيعية والاجتماعية والنفسية، وإكسابه المعرفة والخبرة التعليمية، والاتجاهات والقيم والمهارات، وتعميق فهم علاقاته بالبيئة، وتنمية الاتجاهات الإيجابية نحوها، وتعزيز القناعات بأهمية تعلم العيش الفعال معها، يمكن أن تؤدي دوراً وتأثيراً بالغ الأهمية في التقليل من التأثيرات الناجمة عن المشكلات البيئة المتنوعة التي يساهم الإنسان في صنعها.
ومع الاعتراف بأن التربية البيئية مفهوم يتجاوز حدود المؤسسات التربوية الرسمية، كالمدارس والمعاهد والكليات، فإن التشديد على مسؤولية هذا المؤسسات يستمد مشروعيته من عدد من المبررات يتقدمها الآتي:
• المؤسسات التربوية الرسمية تتعامل مع فئات عمرية اجتماعية هي الأوسع مقارنة بالمؤسسات الأخرى.
• توافر متطلبات عمليتي التعليم والتعلم في المؤسسات التربوية الرسمية تمكنها من وضع أهداف التربية البيئية موضع التطبيق الفعال مقارنة بغيرها من المؤسسات.
• خاصية الاستمرار والانتشار للمؤسسات التربوية الرسمية تمكنها من رسم سياسات ووضع استراتيجيات عمل وطنية للارتقاء بمستوى الوعي البيئي وغرس المفاهيم والمعتقدات البيئية والتدريب على المهارات البيئية بطريقة منهجية منظمة.
أدركت بلداننا الخليجية والعربية هذه الحقيقة منذ وقت مبكر. وسعت إلى بلورة اتجاهات محددة المعالم تهتدي بها المؤسسة التربوية الرسمية لمواجهة القضايا البيئية برؤية شاملة. فكانت المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش المختصة بالتربية البيئية: أهدافها، مناهجها، مناشطها، سياسات وإجراءات تنفيذ برامجها. وبرزت على الساحة تبعاً لذلك اتجاهات ثلاثة:
اتجاه يدعو إلى تطعيم المناهج والمواد الدراسية التقليدية المختلفة بمعلومات محددة عن البيئة والمفاهيم المتصلة بها ودور الإنسان في الحفاظ على سلامتها وأطلق عليه "مدخل الدمج متعدد الفروع"، واتجاه يدعو إلى إعداد برامج ومناهج متكاملة للتربية البيئية وإيجاد مساقات خاصة بها وأطلق عليه "المدخل المستقل"، وهناك اتجاه ثالث يقف موقفاً وسطاً بين الاتجاهين "الدمج" و "المستقل" يدعو إلى إعداد وحدات عن البيئة ومشكلاتها تضاف إلى المقررات الدراسية ذات الصلة بالبيئة كالأحياء، والعلوم بصفة عامة، والجغرافيا وأطلق عليه "مدخل الوحدة".
بذلت جهود حثيثة من قبل الأجهزة المسئولة عن المؤسسات التربوية الرسمية الخليجية والعربية للعناية بالتربية البيئية كما حصل في دولة قطر على سبيل المثال لا الحصر حيث كان لها السبق في تبني منهج المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في المرحلة المتوسطة "الإعدادية" الذي يأخذ من المدخل المستقل أساساً له منذ عام 1975. كما تم إدخال المفاهيم البيئية في مناهج العلوم واللغة العربية والاجتماعيات والعلوم الشرعية والتربية الفنية واللغة الإنكليزية للمرحلة الابتدائية باعتماد "مدخل الوحدة والمدخل الاندماجي"، ومع الاعتزاز بأهمية الجهود التي بذلت وما تزال، فان نتائج الدراسات، التي تناولت المناهج الدراسية الخليجية والعربية تكاد تتفق بأن التربية البيئية لم تصل بعد إلى مرحلة القدرة على إحداث التغييرات المطلوبة في اتجاهات الطلاب وسلوكهم، أو تزويدهم بالمهارات التي تمكنهم من مواجهة المشكلات البيئية في المواقف المختلفة.
كان طبيعياً إزاء هذا الإخفاق أن تتواصل دعوات الإصلاح والتحديث والتطوير للمناهج والنشاطات والفعاليات المرتبطة بها لوضع التربية البيئية في المناهج الدراسية في المنزلة التي تمكنها من تأدية الدور على النحو الأمثل، والإسهام الفعال في تعميق وعي الملايين من طلبة مدارس التعليم العام والجامعي وتوسيع مشاركاتهم وإسهاماتهم الإيجابية في تحقيق التنمية المستدامة للموارد البيئية وحمايتها من الاعتداء الجائر، والاستنزاف غير المبرر، وهو ما تحقق في دولة الإمارات العربية المتحدة التي شكلت لجنة أكاديمية متخصصة أخذت على عاتقها مسؤولية مراجعة مناهج التعليم العام وتقييم أساليب التعامل مع المفاهيم البيئية وطرائق اكتساب التلاميذ المعارف والقيم والمهارات المرتبطة بها وتقديم البدائل الكفيلة بتحقيق التوافق بين الإنسان والبيئة ووضع حد للفجوة القائمة بين المعرفة المجردة للمفاهيم والممارسة التطبيقية لدى التعامل معها في الحياة اليومية.
أدرك - كما يدرك غيري - أن التربية البيئية مسؤولية اجتماعية قبل كل شيء. وأن نجاحها أو فشلها في تحقيق أهدافها مرهون بوجود أو غياب رؤية استراتيجية، وخطط معدة بعناية يساهم في تنفيذها مؤسسات المجتمع بتكامل بعد تحديد أدوارها بوضوح، وإدارة بيئية تتحمل مسؤولية القيادة والتوجيه والمتابعة والتقويم واتخاذ القرارات. مثل هذا الإدراك لا يقلل من أهمية وضرورات قيام هذه المؤسسات وفي مقدمتها مؤسسة الأسرة وجمعيات العمل البيئي التطوعي أخذ زمام المبادرة لتوعية الجيل الجديد بأدوارهم نحو القضايا البيئية وإيقاظ وعيهم بذلك الدور من خلال النشاطات والفعاليات التي تساعد في اكتساب خبرات مربيّة من الميدان.
يمكننا استثمار تجوالنا في المدينة - على سبيل المثال - للتوعية بتلوث الهواء بالغازات الصادرة عن عوادم السيارات، والتلوث الضوضائي، وإذا قررنا اصطحاب أبنائنا في رحلة إلى إحدى الحدائق العامة بإمكاننا استثمار الرحلة للتوعية بأهمية المساحات الخضراء، وأهمية المحافظة على كائناتها الحية، وأهمية نظافتها ودور الإنسان في ذلك، أمثلة كثيرة كهذه تساعد في اكتساب الأبناء الخبرات المربيّة التي يحتاجون إليها في حياتهم اليومية، وإيقاظ وعيهم بالمسؤولية الأخلاقية نحو البيئة، فهذه الممارسات وسواها:
• تكسب الأبناء نشاطاً وفاعلية ، وتضفي الحيوية على ذلك النشاط.
• تساعد على ربط الخبرات المكتسبة من عمليتي التعليم والتعلم في المؤسسة التربوية الرسمية بخبرة الميدان ما يعني استمرارية التعلم.
• تحقق التطبيق الوظيفي للحقائق والمعلومات والمهارات الأساسية التي يكتسبها المتعلمون. fiogf49gjkf0d |