fiogf49gjkf0d قصة سراقة بن مالك في الهجرة
د. راغب السرجاني
نشط كفار قريش في تحميس كلِّ أهل مكة للقبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ونشط الوصوليون، وأصحاب المصالح، والراغبون في الثراء السريع، وبحثوا في كل مكان، ولم يُوَفَّقُوا جميعًا إلا واحدٌ! سراقة بن مالك!
قريش تعلن الجائزة الكبرى
عن سُرَاقَة بْنِ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ؛ فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً[1] بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ[2] فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ.
الله يحفظ نبيه من سراقة
وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَحَطَطْتُ[3] بِزُجِّهِ[4] الأَرْضَ، وَخَفَضْتُ[5] عَالِيَهُ[6] حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا[7] تُقَرِّبُ[8] بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ[9] عَنْهَا فَقُمْتُ، فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الأَزْلاَمَ[10] فَاسْتَقْسَمْتُ[11] بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لاَ؛ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ[12]، فَرَكِبْتُ فَرَسِي -وَعَصَيْتُ الأَزْلاَمَ- تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ لاَ يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الاِلْتِفَاتَ، سَاخَتْ[13] يَدَا فَرَسِي فِي الأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ[14] سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ.
الرسول يعطي سراقة الأمان
فَاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلاَمِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ. وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي[15] وَلَمْ يَسْأَلاَنِي إِلاَّ أَنْ قَالَ: "أَخْفِ عَنَّا". فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ[16]، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ [17] فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ[18]، ثمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم[19].
روايات قصة سراقة بن مالك في الهجرة
وفي رواية ثانية عن أبي بكر رضي الله عنه قال: وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: وَنَحْنُ فِي جَلَدٍ[20] مِنَ الأَرْضِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُتِينَا، فَقَالَ: "لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا". فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَارْتَطَمَتْ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا، أُرَى[21] فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ، فَادْعُوَا لِي، فَاللهُ لَكُمَا[22] أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ. فَدَعَا اللهَ، فَنَجَا، فَرَجَعَ لاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ قَالَ: قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هَاهُنَا. فَلاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ رَدَّهُ، قَالَ: وَوَفَى لَنَا[23].
وفي رواية ثالثة: "فَلَمَّا دَنَا دَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَاخَ فَرَسُهُ فِي الأَرْضِ إِلَى بَطْنِهِ، وَوَثَبَ عَنْهُ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ؛ فَادْعُ اللهَ أَنْ يُخَلِّصَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، وَلَكَ عَلَيَّ لأُعَمِّيَنَّ[24] عَلَى مَنْ وَرَائِي، وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ سَهْمًا مِنْهَا؛ فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ عَلَى إِبِلِي وَغِلْمَانِي بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ". قَالَ: "لاَ حَاجَةَ لِي فِي إِبِلِكَ"[25].
وعن أبي بكر رضي الله عنه في رواية رابعة قَالَ: فَارْتَحَلْنَا، وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَا، فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلاَّ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا. فَقَالَ: "لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا". حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَّا فَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَدْرُ رُمْحٍ[26] أَوْ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا. وَبَكَيْتُ، قَالَ: "لِمَ تَبْكِي؟" قَالَ: قُلْتُ: أَمَا وَاللهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَيْكَ. قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ". فَسَاخَتْ قَوَائِمُ فَرَسِهِ إِلَى بَطْنِهَا فِي أَرْضٍ صَلْدٍ[27]، وَوَثَبَ عَنْهَا، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يُنَجِّيَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَوَاللهِ لأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي مِنَ الطَّلَبِ، وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ مِنْهَا سَهْمًا، فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ بِإِبِلِي وَغَنَمِي فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ حَاجَةَ لِي فِيهَا". قَالَ: وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأُطْلِقَ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ[28].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه في رواية خامسة قال: فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا. فَالْتَفَتَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ". فَصَرَعَهُ الفَرَسُ، ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ[29]، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مُرْنِي بِمَا شِئْتَ. قَالَ: "فَقِفْ مَكَانَكَ، لاَ تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا". قَالَ: "فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ[30]" [31].
سراقة بن مالك وسواري كسرى
هناك موقف له علاقة بقصة سراقة بن مالك أحببتُ أن أُثْبِتَه هنا مع ضعف سنده؛ وذلك لاشتهاره في كتب السيرة والتاريخ، وهو موقف وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم سراقة بن مالك بلبس سواري كسرى في يوم من الأيام! ولا أستبعد حدوث هذا الوعد في الحقيقة -مع ضعف الرواية- حيث إن هناك روايات أخرى تُشير إلى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أعطى في إمرته السوارين -عندما غنمهما المسلمون في فتوح فارس- إلى سراقة بن مالك، وليس من المعتاد أن يُعْطَى أحد المسلمين كل هذا العطاء بلا سبب؛ خاصة أن سراقة لم يكن مشاركًا في الفتوح؛ وبالتالي لم يكن له بلاءٌ خاصٌّ يُبرِّر هذا العطاء الكبير.
وقد فَهِمَ من ذلك علماء كبار –كالإمام الشافعي رحمه الله- أن هذا كان بسبب وعد الرسول صلى الله عليه وسلم لسراقة. وعمومًا فإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء غيبي أمر متكرِّر جدًّا في حياته، كذلك ثقته صلى الله عليه وسلم في نصر الله لأُمَّته، وبفتح المسلمين لبلاد فارس، كان أمرًا ظاهرًا ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع.
والرواية التي فيها هذا الوعد جاءت مرسلة عن سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ: "كَيْفَ بِكَ إِذَا لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى؟" قَالَ: فَلَمَّا أُتِيَ عُمَرُ بِسِوَارَيْ كِسْرَى وَمِنْطَقَتِهِ وَتَاجِهِ دَعَا سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ فَأَلْبَسَهُ إِيَّاهُمَا، وَكَانَ سُرَاقَةُ رَجُلاً أَزَبَّ[32] كَثِيرَ شَعْرِ السَّاعِدَيْنِ، وَقَالَ لَهُ: ارْفَعْ يَدَيْكَ. فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ للهِ الَّذِي سَلَبَهُمَا كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ الَّذِي كَانَ يَقُولُ: أَنَا رَبُّ النَّاسِ. وَأَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَعْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ. وَرَفَعَ بِهَا عُمَرُ صَوْتَهُ[33].
وفي سنن البيهقي أن عمر رضي الله عنه قال عندما أتته غنائم فارس: "أَيْنَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ؟" فَأُتِيَ بِهِ أَشْعَرَ الذِّرَاعَيْنِ دَقِيقَهُمَا، فَأَعْطَاهُ سِوَارَيْ كِسْرَى، فَقَالَ: "الْبَسْهُمَا". فَفَعَلَ، فَقَالَ: "قُلِ: اللهُ أَكْبَرُ". قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ. قَالَ: "قُلِ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي سَلَبَهُمَا مِنْ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَأَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ أَعْرَابِيًّا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ". وَجَعَلَ يُقَلِّبُ بَعْضَ ذَلِكَ بَعْضًا[34]، فَقَالَ: "إِنَّ الَّذِي أَدَّى هَذَا لأَمِينٌ". فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَنَا أُخْبِرُكَ، أَنْتَ أَمِينُ اللهِ، وَهُمْ يُؤَدُّونَ إِلَيْكَ مَا أَدَّيْتَ إِلَى اللهِ، فَإِذَا رَتَعْتَ[35] رَتَعُوا. قَالَ: "صَدَقْتَ". ثُمَّ فَرَّقَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنَّمَا أَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِسُرَاقَةَ وَنَظَرَ إِلَى ذِرَاعَيْهِ: "كَأَنِّي بِكَ قَدْ لَبِسْتَ سُوَارَيْ كِسْرَى". قَالَ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ إِلاَّ سِوَارَيْنِ[36].
ولا يخفى ما في القصة من دلائل نبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثقته الكاملة في نصر الله تعالى، فهو لا يُبَشِّر بخيرٍ قد يأتي بعد عشرات أو مئات السنين، إنما يُبَشِّر بنصر قريب يتحقَّق في حياة سراقة، وقد حدث ما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم تمامًا بتمام، فسبحان الله الذي عَلِمَ الغيب، وأخبر به نبيه؛ قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26، 27]. fiogf49gjkf0d |