تمت الإضافة بتاريخ : 05/07/2015
fiogf49gjkf0d

وتحسبونه هينًا !!

 

كان يرنو إلى صاحبه بصمت.. حين مزّق السكون صراخ هائل ينطلق من المنـزل المجاور، فانتفض وكأن أفعى لدغته على حين غرة، ترك مسعود التائه مُحدِّثه مشدوهًا، ومضى مسرعًا إلى حيث يتجمهر سكان الشقق المجاورة، كانت ألسنة اللهب تلتهم كل ما في المنزل من أثاث، في حين خفتت الأصوات المتعالية من نوافذ البيت.

تذكّر مسعود صاحبه الذي نسيه في غمرة المفاجأة، ولملم بقايا كلمات كانت قد تناهت إلى سمعه منذ قليل، ولم يتبين منها سوى مقاطع لا ترقى إلى مستوى الجمل التامة التي يمكن أن تفضي بإشارةٍ أو إيماءة إلى حقيقة ما حدث: فعلها الشقي.. ألم أقل لك؟ يا للهول!.. ولكن لماذا أحرقه.. هل فعلها حقيقةً؟!.

لم يستطع مسعود مشاركة الحشد في موقفهم، واندفع بصاحبه بخطوات متثاقلة مخذولة إلى حيث كانا يجلسان، فنظر إليه صاحبه، ولا تزال الدهشة تطل من نظراته، وهو يتمتم بكلمات يبدو أنه يحاول إقناع نفسه بها: كان يجب أن يفعل هذا منذ زمن، عجيب أنه انتظر طوال هذه الفترة‍‍!.

ولم يرد مسعود، وبدا وجهه ممتقعًا، ولكن صديقه استمر في حديثه:

أقَدِّر حزنك على ما انتهى إليه أمر صاحبيك. ولكن هناك بعض الأمور تستدعي أن يتخلى الإنسان عن عقله حين يعالجها، إن الشرف غالٍ، يغدو كل شيء أمامه رخيصًا لا قيمة له، كل ما فعله رياض أنه تمثل قول القائل: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى، حتى يراق على جوانبه الدم.

ولكن مسعود لم يخرج عن صمته وبدا كأنه ينظر إلى شيء دقيق تحت قدميه، فلم يجد صديقه بُدًّا من مشاركته الصمت، والتظاهر بالحزن.

وقطع صمتهم صراخ سيارات الشرطة والمطافئ، ولكنها لم تثر فضول أحدهما لمتابعة الموقف من شرفة الحجرة.

وأدرك الصديق أنه لا فائدة من الانتظار، وأيقن أن الصدمة قد سيطرت على مسعود، فآثر أن يتركه لأحزانه، فودعه وانصرف.

واندفع مسعود إلى فراشه، وما إن وضع رأسه على الوسادة حتى مرت في مخيلته أحداث الشهر الفائت.. وكيف كانت نبيلة شقيقة رياض مطمع كل شباب الحي، لطهارة سمعتها، ونقاء أصلها، وعراقة أسرتها، مما أثار حقد وحسد الكثيرات، ومنهن شقيقته سعاد. وكيف كان أدهم مثالاً للشاب ذي الأخلاق العالية، والروح الطيبة، مما أثار كذلك حقد وحسد الكثيرين، ومنهم هو نفسه، رغم الصداقة الوطيدة التي تجمعهما سويًّا ومعهما رياض، فقد كانوا أترابًا يجمعهم حي واحد ودراسة واحدة، ولم يفرق اختلاف مجالات أعمالهم بينهم، فكانوا يلتقون دائمًا في نهاية الأسبوع في بيت أي منهم، يتبادلون أخبارهم وحكاياتهم، وكان بيت رياض يحظى بكثير من هذه اللقاءات والمسامرات. وقد كان مسعود ماهرًا في إخفاء حقيقة شعوره تجاه أدهم، يظهر له من التقدير والاحترام أضعاف ما يظهره رياض الذي لا يحتاج لهذا التكلف، فقد كانت سريرته نقية بالفعل، ولا يعتمل في نفسه ما في نفس مسعود.

وتذكر مسعود اليوم الذي اقتحمت فيه عليه حجرته سعاد أخته، وقد بدت على وجهها أمارات التشفي المصحوب بالأسى المفتعل، وهي تقول: تعال يا أخي الفاضل لتسمع! فسألها:

- أسمع ماذا؟

- حكاية الشاطر أدهم والأميرة نبيلة.. ونطقت باسم الأخيرة وهي تضغط على أسنانها.

- ماذا تعنين؟

فردت بأسلوب يملؤه التهكم: الجوهرة المكنونة والدرة المصونة.

وهنا نفد صبر مسعود فسألها بحدة:

- ماذا تريدين أن تقولي؟

نبيلة الفاضلة الطاهرة وقعت في حب السيد أدهم، وسكتت قليلاً ثم نطقت وكأنها تلقي بيانًا ظهر من خلال نظراتها أنه كذب: وتواعده وتقابله!!.

سكت مسعود قليلاً وهو يجري نظراته الفاحصة في عيني شقيقته، وحرك يده ليصفعها، ثم تراجع عندما ناداه شعوره الدفين تجاه أدهم من داخله، وكأنه أراد أن يتحمل نبرتها هذه حتى يعرف كافة التفاصيل، فهدَّأ من انفعاله، وسحبها من يده وأجلسها على فراشه، ثم اتجه ليغلق الباب عليهما، رغم أن البيت خالٍ إلا منهما، وعاد إليها ساحبًا مقعدًا نصبه في مواجهتها، ثم جلس عليه واضعًا قبضة يده تحت ذقنه، وقال لها في لهجة مستجوبة:

- احكي لي من البداية، وبالتفصيل.

وشعرت سعاد أن حديثها صادف هوى في نفس شقيقها، فاندفعت تسرد وقائع لقائها مع نبيلة، وقد عادت للتو من زيارتها، وكيف أنها صارحتها بميلها القلبي تجاه أدهم، لما تسمع عنه من شقيقها وأبويها، وتمنيها لو أنه كان من نصيبها. ويبدو أن سعاد كانت تشعر بنفس الشيء تجاه أدهم، إلا أنها ما كانت تجرؤ على مصارحة أحد بهذا الأمر. وانتهت سعاد من حكايتها. وبتلقائية سألها أخوها:

وأين المواعدة والمقابلة؟

- لم تذكر لي شيئًا عن هذا.

فاحتد مسعود وهو يسألها:

- ألم تقولي منذ قليل: إنها تواعده وتقابله؟!

فردت سعاد بسرعة صاحبها الاضطراب: نعم، ولكني أنا الذي استنتجت ذلك، إنه شعور الفتاة بفتاة مثلها، إنه ما دفعها لكي تحكي لي شعورها هذا إلا أنها بالتأكيد قد وصلت معه في علاقتها إلى هذا الحد.

فامتعض مسعود وكأنه أصيب بخيبة أمل حيث كان ينتظر من أخته كلامًا يرضيه ويمكنه من أن يخرج أضغانه تجاه أدهم، فقام من مجلسه وأسرع إلى أخته وأمسكها من ذراعها، وأخذ يضغط عليه وهو يحدثها ضاغطًا على أسنانه:

- شعور الفتاة بفتاة مثلها!! تلوثين سمعة الفتاة وتقولين: أستنتج، إياك أن تكرري هذا الكلام، يا لك من شقية!! اغربي عن وجهي.

وبدت سعاد وكأنها أخذت نصيبها من خيبة الأمل، فقد كانت تظن أن أخاها سيشكرها على ما حملت إليه من أخبار، فهي تعرف دخيلة نفسه تجاه أدهم، وظنت أنها تسدي إليه بذلك فرصة للنيل منه. ولكنها ما زادت على أن نظرت إليه بخوف وخجل، واندفعت تركض من أمامه، تاركة له الحجرة، وقد أغلقت بابها عليه.

ورمى مسعود جسده فوق فراشه، وهو لا يستطيع السيطرة على الأفكار المتلاحقة في خاطره، والصراعات التي تُشَن في عقله. ولكن الغلبة كانت لشيطانه، فاندفع يلتمس العذر لأخته، ويقنع نفسه بما وصلت إليه بأفكارها الخبيثة، ووجد نفسه ينطق بصوت مسموع:

ولِمَ لا، من تظنه موسى يصبح فرعون، إذن فأنت كذلك يا أدهم، تخدعنا كل هذه المدة، واندفع إليه شيطانه يغرقه بفيض من التأويلات لتصرفات كان يراها طبيعية عندما كان أدهم يصر على عقد لقاء الصحبة في بيت رياض.. كان يفعل ذلك ليكون بجوارها، وعندما كان أدهم يلقي عليهم قصائد كتبها كان يزعم أنه كتبها عفو الخاطر لحبيبة في خياله ليست معينة، وكيف كان يرفع صوته بها.. إذن لكي يصل صوته إلى مسامعها.. إلى آخر هذه التصورات والخيالات الشيطانية.

ثم وجه حديثه إلى نفسه مقنعًا لها: نعم، إن سعاد على حق.

وهنا أخذ فحيح شيطانه يأخذ منحى آخر: الواجب عليَّ أن أتصرف، أن أبادر لتحذير رياض، أن أصون سمعته وشرف عائلته. وبات عازمًا على شيء، مبيتًا النية على فعل.

وساقه شيطانه في طريق طويل من الكيد والإغراء والوقيعة بين صاحبيه بأساليب شتى، وقد أوعز إلى الرفاق بوساوسه تلك، وما إن ينتهي من سرد حكايته لواحد منهم، حتى يحذره ويرجوه كتمان هذا الأمر، ويَعِده الرفيق بالكتمان.

ولكن أين للألسنة أن يُحكَم قيدها، وأين للقلوب والعقول الخاوية أن تتحلى بالحكمة، وشهوة الحديث والمباهاة بمعرفة خفايا الأمور لا ينجو منها إلا من رحم ربي.

سرت الشائعة كالنار في الهشيم، وكان لا بد أن تصل في النهاية إلى مسامع رياض بعد أن أضيفت إليها خيالات وتصورات شيطان كل من ينقلها للذي بعده.

وبدأت التلميحات العدائية من رياض تجاه أدهم بعدما تكدر صفو الصحبة، وأدهم لا يدري سر تغير رياض من ناحيته، ورياض لا يصارح أدهم بما ترامى إليه، يمنعه من ذلك الحرج في مواجهته، متوقعًا أنه لا بد وأنه سينكر، وما من دليل عند رياض يواجه به أدهم إلا الكلام.. فقط الكلام. ويمنعه كذلك مسعود بدعوىأن ذلك سيظهره بمظهر الضعف أمام أدهم.. والحقيقة أنه يريد أن تستمر اللعبة.

وصارت نبيلة لا تدري سر تحول معاملة شقيقها لها، وتضييقه عليها دون أن يبدي سببًا معقولاً، إلا كلمات جارحة يقذفها بها بين الحين والآخر لا تحمل أي معنى، وكثيرًا ما يتدخل الوالدان لتوبيخه على تصرفاته، دون أن يستطيع مصارحتهما، إنه يخشى عليهما من وقع الصدمة‍‍!!.

وانفرط عقد الصحبة، وصار اللقاء ثنائيًّا، بين رياض ومسعود، أو بين مسعود وأدهم. وطال الأمد بمسعود حتى نسي أنه أصل القصة وأساس الفِرية، وبدأ في لعب دور المصلح الشفوق بكلا صاحبيه.

وفي لقاء جمع بين مسعود ورياض صرَّح رياض بأنه قد قرر وضع حد لمعاناته.. فسأله مسعود متلهفًا:

- ماذا ستفعل؟

- سأقتله.

- تقتل من؟

- وهل هناك غيره؟

- أدهم؟؟

- لا تنطق هذا الاسم النجس أمامي، كنت أتمنى أن أقتلهما معًا، لولا والداي. يكفيني هو.

وتمادى مسعود في أداء دور الناصح الحكيم: بل يكفيك أن تقطع علاقتك به نهائيًّا، وتزوِّج أختك، وينتهي الأمر.

وبصوت يملؤه الأسى: لا أستطيع غفران خديعته لي، سأحرق قلبه كما حرق قلبي. ثم انتفض واقفًا كأنه لُدِغ، وقال بصوت كأنه قادم من بئر سحيق: نعم، سأحرقه.

ولم يجد مسعود أمامه إلا أن يربت على كتف رياض بحركة مسرحية، ثم يتركه وينصرف، وهو يظن أنها انفعالات مجنونة وقتية، ستزول.

وقد كان ضمير مسعود يستيقظ أحيانًا، فيؤرقه ويفسد عليه نومه، ولكنه لا يستطيع التراجع، كيف يواجه رياض وأدهم ورفاقه؟ ثم سرعان ما يغتال شيطانه هذه اليقظة، ويطمئنه بأن السحابة ستمر، ولن يعدو الأمر مجرد القطيعة، وسيظل هو الصديق الأوفى لكليهما.

حتى جاء هذا اليوم وقد جاء هذا الصاحب ليزوره، وجلسا يتحادثان، وكان لا بد أن يأتي ذكر وقائع ما بين أدهم ورياض، ولكن مسعود كان يحاول بدافع من إحساسه الداخلي بالذنب ألا يتسع الحديث في هذا الأمر، وكان بين الفينة والفينة يتطلع من شرفته إلى البيت المجاور، إلى حيث يسكن أدهم، وكأنه يترقب حدوث شيء ما، حتى سمعا الصراخ ينطلق.. لقد نفذ رياض تهديده، فذهب إلى أدهم حاملاً معه زجاجة وقود وثقاب، وقرر أن يتلو عليه أولاً عريضة الاتهام، ثم يفاجئه بتنفيذ الحكم، وما هي إلا لحظات حتى علت أصواتهما، وحملتها أنسام الهواء ما بين شرفتي أدهم ومسعود، أصوات متداخلة غير واضحة، ولكنها واضحة بينة عند مسعود، فبدا عليه القلق، واستيقظ ضميره ثانية، وفكَّر في الذهاب إليهما، ولكن ماذا يقول؟ لقد انتهى دوره، ربما نفذ رياض تهديده فيه هو، وعاد شيطانه للظهور والغلبة: لا عليك، دقائق وينتهي الأمر.

وبالفعل كانت دقائق وانتهى الأمر، ولكن ليس على ما صوَّره الشيطان لمسعود.

لم يستطع رياض أن يتحكم في نفسه وهو يرى إنكار أدهم الشديد للاتهام، وغاب عقله، فأفرغ زجاجة الوقود على أدهم وأشعل فيه النيران.

 

عندما وصل مسعود لهذا الحد من العرض وهو لا يزال على فراشه محملقًا في سقف حجرته، سرت في جسده رعدة، وطفرت من عينيه دمعة، فأدار زر المذياع بجواره علَّه يسمع ما يُسَرِّي عنه، ويخرجه من هذا الأرق، وما إن أدار الزر حتى سمع قارئًا يتلو: {إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} ، فشهق شهقة عظيمة.. كانت الأخيرة.

____________________

المصدر : موقع إنسان موقع الأستاذ فتحي عبد لستار

 

fiogf49gjkf0d