fiogf49gjkf0d
الرسالة للإمام الشافعي
خالد خلاوي
ترجع أهمية كتاب الرسالة للإمام محمد بن إدريس الشافعي إلى كونه أحد الكتب التي أسست لعلم جديد في العلوم الإسلامية، فقد أجمع عدد من العلماء والمحققين على أنه أول كتاب في علم أصول الفقه، بل وعده البعض أول كتاب في أصول الحديث أيضًا، قال الفخر الرازي في مناقب الشافعي: «كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه، ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كُلّي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليًا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع. فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة أرسطوطاليس إلى علم العقل».
وتميزت الرسالة بأنها كتبت بلغة أدبية عرفت بها كتب الشافعي، يقول أحمد شاكر في مقدمة تحقيق الكتاب: «و(كتاب الرسالة) بل كتب الشافعي أجمع، كتب أدب ولغة وثقافة، قبل أن تكون كتب فقه وأصول، ذلك أن الشافعي لم تهجنه عجمة، ولم تدخل على لسانه لكنة، ولم تحفظ عليه لحنة أو سقطة».
تعريف بالإمام
الإمام محمد بن إدريس الشافعي، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه نسبة المذهب الشافعي، ولد في مدينة غزة بفلسطين عام 150هـ الموافق 767م، ولما بلغ سنتين قررت أمه العودة به إلى مكة، فأتم حفظ القرآن وعمره سبع سنين، وحفظ كتاب الموطأ للإمام مالك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، يقول الشيخ محمد أبوزهرة في ترجمته (وكان الشافعي يستمع إلى المحدثين، فيحفظ الحديث بالسمع، ثم يكتبه على الخزف أو الجلود، وكان يذهب إلى الديوان يستوعب الظهور ليكتب عليها، والظهور هي الأوراق التي كُتب في باطنها وتُرك ظهرها أبيض، وذلك يدل على أنه أحب العلم منذ نعومة أظفاره).
ثم رحلت به أمه إلى المدينة، فلازم الإمام مالكا ست عشرة سنة حتى توفي الإمام مالك سنة 179 هجرية، فانتقل الشافعي إلى بغداد واتصل بمحمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة وقرأ كتبه، وتعرف على علم أهل الرأي، ثم عاد بعدها إلى مكة وأقام فيها نحوا من تسع سنوات لينشر مذهبه من خلال حلقات العلم التي يزدحم فيها طلبة العلم في الحرم المكي ومن خلال لقائه بالعلماء أثناء مواسم الحج. وتتلمذ عليه في هذه الفترة الإمام أحمد بن حنبل.
ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة (195 هجرية)، وكان له بها مجلس علم يحضره العلماء ويقصده الطلاب من كل مكان، وفي هذه الفترة ألف كتابه (الرسالة).
وقدم الشافعي مصر سنة 199هـ، فأعاد الشافعي النظر في بعض مسائل مذهبه، كما أخذ ينشر مذهبه الجديد، ويعلم طلاب العلم، حتى توفي في مصر سنة 204 هـ.
ومن مؤلفاته رحمه الله: كتاب (جماع العلم)، دافع فيه عن السنة دفاعًا مجيدًا، وأثبت ضرورية حجية السنة في الشريعة. وكتاب (الأم)، و(اختلاف الحديث)، وغيرها.
سبب التأليف
ألف الإمام الشافعي الرسالة مرتين، ولذلك تُسمى: الرسالة القديمة والرسالة الجديدة، أما الرسالة القديمة فالراجح أنه ألفها في مكة، إذ كتب إليه أحد طلاب العلم وهو عبدالرحمن بن مهدي يطلب منه أن يضع له كتابًا فيه معاني القرآن. ويجمع قبول الأخبار فيه،وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة. فوضع له كتاب الرسالة.
وقال علي بن المدني: (قلت لمحمد بن إدريس الشافعي أجب عبدالرحمن بن مهدي عن كتابه، فقد كتب إليك يسألك، وهو متشوق إلى جوابك. قال: فأجابه الشافعي، وهو كتاب الرسالة التي كتبت عنه بالعراق، وإنما هي رسالته إلى عبد الرحمن بن مهدي).
وأرسل الكتاب إلى ابن مهدي مع الحارث بن سريج النقال الخوارزمي ثم البغدادي، وبسبب ذلك سمي النقال، وأما كتاب الرسالة المعروف حاليًا فهو الكتاب الذي ألفه في مصر.
أبواب الكتاب
في سلسلة تراث الإنسانية التي أصدرتها وزارة الثقافة في مصر قام الدكتور محمد يوسف موسى باستعراض أبواب كتاب الرسالة باستفاضة، ولأهمية ما كتبه نورده هنا بإيجاز:
كان من الطبيعي والقرآن عماد الدين، وفيه بيان ما أراد الله بيانه من الأحكام- أن يبدأ الشافعي «الرسالة» بباب بيَّن فيه كيف بيان كتاب الله لما جاء به (ص21 وما بعدها) من أحكام العبادات والمعاملات لأن البيان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشبعة الفروع.
فمن البيان في القرآن ما يكون نصًا لا يحتمل التأويل، وذلك كجمل ما فرضه الله من صلاة وزكاة ونحوهما، ومثل ما حرمه من أكل الميتة ولحم الخنزير ونحوهما. ومنه ما أحكم الله فرضه في الكتاب، ثم بين كيفه على لسان نبيه، مثل عدد الصلاة والزكاة وأوقاتها، ومنه ما سنه الرسول " صلى الله عليه وسلم" مما لا نص فيه في الكتاب، ولكن الله فرض علينا في الكتاب طاعته. إلى آخر ضروب البيان التي ذكرها الشافعي.
وبعد أن عرض مراتب البيان الخمسة، تناولها بالإيضاح في أبواب خمسة (ص26 وما بعدها) بذكر شواهد وأمثلة لكل منها. وجاء في الباب الأخير ما يدل على أن السنة قد تخصص الكتاب، ولهذا أتبع ذلك بأبواب: بيّن فيها ما فرضه الله من وجوب طاعة رسوله واتباع سنته.
وبعد الفراغ من ذلك أخذ يتكلم (ص106 وما بعدها) عن النسخ وحكمته، وعن الناسخ والمنسوخ، وأطال الكلام في فصول عدة في هذا الموضوع المهم. فهو يذكر أن الله فرض فرائض أثبتها، وأخرى نسخها تخفيفًا عن عباده، وأبان أنه نسخ ما نسخ من القرآن به وأن السنة لا تكون ناسخة له، بل هي تابعة له، لأن على الرسول اتباع ما يوحى إليه، وليس له تبديله من نفسه.
وأخذ بعد ذلك (ص176 وما بعدها) في بحث جمل الفرائض التي أحكم الله فرضها بكتابه، وبين كيف يكون القيام بها على لسان نبيه؛ وذلك مثل الصلاة والزكاة والحج، فكل هذا فرض بالقرآن، ولكن السنة هي التي بينت عدد الصلوات وعدد ركعات كل منها، وكيفية أدائها في الحضر والسفر، وبينت كذلك تفصيل أحكام جميع الفرائض.
ونجد بعد ذلك بابًا عنوانه (باب العلل في الأحاديث) (ص210 وما بعدها) تكلم فيه عن الأحاديث التي نجد في القرآن مثلها نصًا، وأخرى في القرآن نجد مثلها جملة.
ثم انتهى إلى الكلام على الإجماع وحجيته (ص471 وما بعدها) مبينًا أن عامة المسلمين لا تجتمع على خلاف لسنة رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ، ولا على الخطأ. وتناول بعده القياس باعتباره أصلا من أصول الفقه بعد الكتاب والسنة والإجماع (ص476 وما بعدها)، مبينًا الأدلة على وجوب المصير إليه عند الضرورة، وشروط القياس الصحيح، ومن يجوز له شرعًا أن يقيس، ثم من يصح منه الاجتهاد في أحكام الله.
ومن المباحث المهمة التي تناولها الشافعي بعدئذ الاستحسان، فقد ذهب إلى إبطاله (ص503 وما بعدها)؛ فذكر أنه حرام على أي إنسان أن يقول بالاستحسان إذا خالف الخبر من الكتاب أو السنة؛ لأن حلال الله وحرامه أولى ألا يقال فيها بالتعسف والاستحسان، وأنه لو قال أحد في هذا بلا خبر لازم أو قياس كان آثمًا.
وأخيرًا يختم الإمام رسالته ببيان أن أصول الفقه ليست في مرتبة واحدة، بل لكل منها مرتبة معلومة بحيث يجيء بعضها في أثر بعض فيقول: «نحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها التي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا: حكمنا بالحق في الظاهر والباطن، ونحكم بالسنة قد رويت من طريق الانفراد. لا يجتمع الناس عليها، فنقول: حكمنا بالحق في الظاهر، لأنه قد يمكن الغلط فيمن روى الحديث، ونحكم بالإجماع ثم القياس، وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلة ضرورة؛ لأنه لا يحل القياس والخبر موجود، كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء، وإنما يكون طهارة في الإعواز، فكذلك يكون ما بعد السنة حجة إذا أعوز من السنة «أ.هـ». fiogf49gjkf0d |