fiogf49gjkf0d الجرأة في قول الحق
منصور صالح الجادعي
فقد ذكر الإمام تاج الدين بن علي بن عبد الكافي السبكي رحمه الله تعالى في كتابه "طبقات الشافعية" قصة من أروع القصص الدالة على الجرأة في قول الحق والصدع به، والشجاعة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم الخوف إلا من الله سبحانه وتعالى.
يقول رحمه الله: "قال الباجي: طلع شيخنا عز الدين بن عبد السلام(1) مرة والسلطان نجم الدين أيوب بن الكامل في زينته في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد العساكر مصطفين بين يديه ومجلس المملكة، وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة، وقد خرج على قومه في زينته على عادة سلاطين الديار المصرية، وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه: يا أيوب، ما حُجتُك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر، ثم تبيح الخمور؟
فقال: هل جرى هذا؟
فقال: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور.. وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة. يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون.
فقال: يا سيدي هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي.
فقال: أنت من الذين يقولون: ?إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ? [الزخرف:22]؟
فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة.
يقول الباجي: سألت الشيخ لما جاء من عند السلطان وقد شاع هذا الخبر: يا سيدي كيف الحال؟ فقال: يا بني رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه؛ لئلا تكبر نفسه فتؤذيه، فقلت: يا سيدي أما خفته؟ فقال: والله يا بني استحضرت هيبة الله تعالى فصار السلطان قدامي كالقط"(2).
إن من الصفات التي لازمت العز بن عبد السلام طيلت حياته صفة الشجاعة في الحق؛ ذلك لأنه كان مع الحق يدور حيث دار، وهذا نموذج واحد من نماذج كثيرة تدل على هذا الخلق العظيم الذي تحلى به هذا الإمام(3).
ومن هذه القصة نأخذ الدروس الآتية:
أولاً: خلق الشجاعة من الأخلاق الفاضلة التي ينبغي أن يتحلى بها المحتسب، سواء كانت هذه الشجاعة "في الرأي أو في الإقدام على إزالة المنكر مع قوة في الشخصية التي تضفي عليه الهيبة، فربما أزال بقوة شخصيته وهيبته المنكر دون عقوبة بدنية"(4).
والشجاعة المقصود بها: "شدة القلب في البأس"(5)، ويعرفها الجرجاني بأنها:
"هيبة حاصلة للقوة الغضبية بين التهور والجُبن، بها يُقدم على أمور ينبغي أن يُقدم عليها، كالقتال مع الكفار ما لم يزيدوا على ضعف المسلمين"(6).
ويقول الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى: "الشجاعة إن اعتبرت وهي من النفس، فصرامة القلب على الأهواء, وربط الجأش في المخاوف، وإن اعتبرت بالفعل فالإقدام على مواضع الفرصة، وهي فضيلة بين التهور والجبن"(7). "وكما هي في ميادين القتال والجهاد تكون عند رؤية المنكرات، وعند التعبير عن الرأي، وعند الصدع بالحق، وعند الاعتراف بالخطأ، وعند الرجوع للصواب، وقد يخطئ من يجعل الشجاعة ضد الخوف، فقد يجد الشجاع الخوف، ولكن لا يمنعه من قول الحق والصدوع به وإنكار المنكر إذا رآه"(8)، يقول الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد: "الذي يرى النتائج، ويخاف وقوعها، ثم يواجهها في ثبات هو رجل شجاع. فالقائد الذي يقف على خط النار، فترتعد لذلك فرائصه، خشية من نزول الموت به، ثم يضبط نفسه ويؤدي عمله كما ينبغي هو رجل شجاع. بل شجاع أيضاً إذا رأى أن خير عمل يعمله أن يتجنب الخطر, وأن الواجب يقضي عليه أن ينسحب بجنوده حيث لا خطر, فإذا هو أضاع في موقفه رشده، أو ترك موقفاً يجب أن يقفه، أو فر بجنوده من خطر كان عليه أن يقفه فهو جبان.
فالشجاعة لا تعتمد على الإقدام والإحجام فحسب، ولا على الخوف وعدمه، وإنما تعتمد على ضبط النفس، وعمل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي"(9)، والشجاعة ليست قوة البدن, بل هي أيضاً قوة القلب، وثباته والبعد عن التهور؛ لذلك جعل صلى الله عليه وسلم الشجاع الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب, فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»(10), وقد حث الله سبحانه على هذا الخلق والتمسك به, فقال سبحانه وتعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ? [المائدة: 54]، قال الإمام ابن كثر: "قوله تعالى: ?يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ? أي: لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وقتال أعدائه، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم، ولا عذل عاذل"(11).
وكان مما عاهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام الشجاعة في الحق, فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم»(12)، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته أروع صور الشجاعة الحقة، وتبعهم في ذلك سلف الأمة الذين "كان من عادتهم التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار، والقول بالحق حيثما كانوا، من غير مبالاة بذهاب المهج، ولا إيذاء الأبدان، ولا تلف الأموال، موطنين أنفسهم على كل ما يصيبهم في سبيل الصدع بالحق، وإنكار المنكر، محتسبين ذلك عند الله تعالى"(13), فبذلك جعلت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس، وقامت بإنكار المنكرات, محتسبة الأجر على الله سبحانه وتعالى, يقول السيد جلال الدين العمري: "هذه الأمة التي ألقى الله على كواهلها مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والتي عليها أن تصلح أمرها بنفسها، لها تاريخ مشرف مجيد في الصدق والجرأة والشهامة، والصدع بالحق, ولئن وجدت فيه من سكت عن المنكر، وما قوى على إظهار المعروف لضعف إيمانه، فلا تستقل عدد أولي العزم وأصحاب الهمم الذين تصدوا للباطل وشهدوا بالحق في ظلال السيوف, وذلك هو الذي ما زال يضمن للأمة حياتها وبقاءها، وإن فقدت كافة الأمة يوماً هذه الروح -روح التضحية والفداء والتفاني- كان أشأم يوم في تاريخها, وانقطعت عنها رحمة الله, ولم يحل بينها وبين هلاكها شيء, وسقطت في الدرك الأسفل إلى هاوية الانحطاط"(14).
هذا الخلق الحسن رأيناه واضحاً جلياً في الإمام الفاضل العز بن عبد السلام، رأينا شجاعته ورباطة جأشه، وصدق لهجته، وصدعه بالحق أمام السلطان، وهذا الدرس هو الذي ينبغي أن يستفيد منه المحتسبون، ويتخلقوا بهذا الخلق العظيم؛ حتى يصدعوا بالحق ويجهروا به أينما كانوا، لا يخافون في الله لومة لائم ولا عذل عاذل.
ثانياً: نستفيد من هذه القصة: أن هذا الإمام كان يغار على محارم الله، ولا يرضى بوجود المنكرات، فلما رأى بعض المنكرات من السلطان: من صنيع الأمراء -بتقبيل الأرض بين يديه- والمبالغة في الزينة.. وغيرها من الأمور التي تدعو إلى التعاظم والتعالي، أنكر على السلطان هذا الصنيع ذاكرًا له كيف يفعل مثل هذا، والمنكرات موجودة في مملكته ولم يغيرها، فما كان من السلطان إلا أن استفهم عن مكان هذه المنكرات, فدله الشيخ على مكانها فأمر السلطان بإزالتها والقضاء عليها.
فالمحتسب لا بد أن يغار على محارم الله إذا انتهكت, ويسعى بكل جهده في إزالة المنكرات والقضاء عليها, مستخدماً كل ما يمكن من الوسائل الممكنة والطرق المشروعة.
ثالثاً: مقدار المكانة الذي كان يتمتع بها العز بن عبد السلام رحمه الله، فكانت كلمته مسموعة وأمره مطاع، بين الخاصة والعامة، وأسلوبه الذي استخدمه مع السلطان نجم الدين أيوب أسلوب فيه من الغلظة والشدة ما فيه، ولكن لمكانة هذا الإمام تقبل منه ذلك، والدرس الذي نأخذه من هذا: أن المحتسب إذا كان له جاه عند أولي الأمر، ويحظى بمكانة عند المجتمع, فعليه أن يستغل جاهه، ويسعى عند أولي الأمر في إزالة المنكرات التي تحتاج إلى مراسيم منهم؛ لأن بعض المنكرات تحتاج إلى أمر السلطان وسوطه.
رابعاً: لما كان الحاكم المسلم كآحاد الناس قد يترك المعروف ويرتكب المنكر, بل وهو في ذلك له من الإمكانيات ما ليست لآحادهم كان لزاماً على من آتاه الله العلم والجاه إنكار ما يقع فيه الحاكم من منكرات, مع القيام بحقه في الطاعة والإكرام(15)، يقول الإمام النووي رحمه الله: "أجمع الفقهاء على وجوب طاعة الأئمة والولاة في غير معصية، وعلى تحريمها في المعصية"(16).
ولكن الاحتساب على هؤلاء لا بد أن يراعى فيه الآتي:
- الإخلاص لله تعالى, فلا يقصد من عمله طلب المنزلة عند السلطان أو حمد الناس والثناء عليه والشكر لصنيعه.
- أن يكون الإنكار سراً, وقد أرشد إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: «من أراد أن ينصح لسلطان بأمر، فلا يبد له علانية، ولكن ليأخذ بيده، فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه له»(17).
- اختيار الألفاظ الحسنة اللائقة بهم.
- التلطف معهم واستخدام أسلوب اللين؛ لأن ذلك أدعى لاستجابتهم وقبولهم.
- ينبغي معرفة أسباب الوقوع في المنكر؛ لتكون المعالجة بحسب السبب(18).
نسأل الله بمنه وكرمه أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، ويزدنا علماً، والحمد لله رب العالمين.
_____________________________
(1) الملقب بسلطان العلماء.
(2) طبقات الشافعية الكبرى (8/ 211-212).
(3) للاستزادة من هذه النماذج انظر طبقات الشافعية الكبرى (8/ 209-217).
(4) فقه إنكار المنكر (ص:112) بدرية بنت سعود.
(5) لسان العرب (8/ 173) ابن منظور.
(6) التعريفات (ص:125).
(7) الذريعة إلى مكارم الشريعة (ص:232).
(8) أخلاقيات إنكار المنكر في ضوء التربية الإسلامية (ص:190).
(9) الهمة العالية معوقاتها ومقوماتها (ص:287).
(10) صحيح البخاري (8/ 28) رقم (6114)، وصحيح مسلم (4/ 2014) رقم (2609).
(11) تفسير ابن كثير (3/ 136).
(12) صحيح البخاري (9/ 77) رقم (7199)، وصحيح مسلم (3/ 1470) رقم (1709).
(13) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرها في تحقيق الأمن (ص:68) عبد العزيز بن فوزان الفوزان.
(14) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص:262)، جلال الدين العمري.
(15) أخلاقيات إنكار المنكر في ضوء التربية الإسلامية (ص:257).
(16) شرح صحيح مسلم (12/ 220).
(17) مسند أحمد ط الرسالة (24/ 49) رقم (15333)، وقال محققوه: "حسن لغيره".
(18) انظر: أخلاقيات إنكار المنكر في ضوء التربية الإسلامية (ص:262). fiogf49gjkf0d |