"ومن لم يذق مر التعلم ساعة تجرع ذل الجهل طول حياته".. هكذا تنبه لهذه المقولة من أراد أن يبزغ نجمه في سماء العلم، وسعى لها سعيها، فالعلم يرفع شأن من لا شأن له، وبه تبني بيوتاً لا عماد لها، والجهل يهدم بيت العز والشرف، لذلك اتبع الناس على مر العصور كافة الوسائل التي تمكنهم من تحصيل العلم مهما كانت مكلفة وأيا كانت سلبياتها كالتلقين لا الفهم وهنا تقع المسئولية الكبيرة على المعلم الذي يمثل أول مصدر للعلم يستقي منه الطالب معلوماته وخبراته، فإما أن يقوم هذا المعلم بإنشاء جيل يتخذ من الحفظ لا الفهم وسيلة لتحقيق النجاح، وإما أن يساهم في دفع جيل مبتكر مفكر لمجتمعاتنا المتعطشة للمبدعين.. وبمرور القرون تتغير الأفكار والمناهج والأساليب والوسائل، لتتيح لمن لا يملك مالا لامتلاك أطنان من الكتب المليئة بالعلم بضغطة على زر الفأرة، فلم يعد العلم قاصرا على الذهاب لجامعة، ولم يعد حتى المتخرج في هذه الجامعة قد حصَّل كل العلم، بل عليه الاستمرار في التعلم ذاتيا طوال حياته..
"نوارة أحمد علي يونس أبودومة".. هذا هو اسمها بالكامل، فتاة نشأت في صعيد مصر، وتحديدا في مدينة الغنايم بمحافظة أسيوط، نشأت في أسرة كبيرة العدد، بين عشرة من الأشقاء، وأب متوسط الحال، وأم لم تتحصل على قدر من التعليم، لكنها وهبت كل حياتها لتربية هذا الكم الكبير من الأبناء.. ولأن "نوارة" نشأت في بيئة لا تميل إلى تعليم الفتيات، ولأنها طبيعتها شغوفة بالعلم والمعرفة، وجدت نفسها في مأزق كبير بين طبيعة بيئتها وبين رغبتها في التعلم، كانت قد بلغت الثامنة من عمرها دون أدنى أمل لها في أن تتعلم "ألف، باء، تاء".. حتى رأتها إحدى جارات والدتها، وكانت تعمل مدرسة، وعرفت برغبتها في التعلم، ولأنها تعي جيدا طبيعة العقبة المتمثلة في عدم اقتناع الأب بتعليم البنات، لذلك اقترحت مع الأم حلا وسطا، أعطى بريق الأمل لـ"نوارة".
تجسد الأمل في تبني هذه المدرسة لـ"نوارة" لتعليمها ذاتيا في المنزل، وأظهرت "نوارة" استجابة سريعة للتعلم أذهلت المدرسة، كانت تسابق عمرها والزمن لتحصيل ما فاتها وتحقيق حلمها، وفي وقت قياسي كانت قد اجتازت الامتحانات المؤهلة لاجتياز المرحلة الابتدائية، وعلى الرغم من عدم اقتناع الأب بما تفعله ابنته، وعلى الرغم من قيامها في الوقت ذاته بقسط من الأعباء المنزلية، واصلت "نوارة" تعليم ذاتها بنفسها وبمساعدة المدرسة التي ساقتها لها الأقدار، واجتازت المرحلة الإعدادية ثم الثانوية، كل ذلك من منزلها ودون أن تلتحق يوما باية مدرسة نظامية، ومات الأب قبل أن يشهد فرحة ابنته بهذه الخطوات التي قطعتها ابنته في طريق التعليم الذاتي، والتي توجت اخيرا بالتحاقها بكلية الطب جامعة المنيا، وما زالت تواصل فيها بناء مستقبلها يوما بعد يوم، والتي تعتبرها مجرد مرحلة في مستقبلها الذي يتواصل يوما بعد يوم مع التعليم الذاتي.
قاهر اللغة
أما التجربة الثانية معنا فصاحبها "أحمد مصطفى" مؤسس فريق "نوبيا تيم"، خريج الدبلوم الصناعي، الذي وجد نفسه أمام سوق عمل لا يقبل إلا باللغة الأجنبية الممتازة وإجادة الحاسب الآلي، فأدرك كما يقول أنه "من سار على الدرب وصل" وأخذ يؤهل نفسه لتعلم اللغة، لكن العقبة المادية كانت له بالمرصاد، لكنه لم يستسلم وخلق لنفسه طريقا آخر ساعده على النجاح فيه شخصيته الاجتماعية الودودة التي جذبت إليه السائحين لما رأوه من حسن معاملته، فاعتمد على التبادل اللغوي معهم وإقامة المسابقات إضافة إلى بعض المواد المتوفرة على الإنترنت للاستماع الجيد لأصول النطق في اللغة.
وأكد "أحمد" أن هذه الطريقة في التعلم لم تكسبه لغة فقط، بل أكسبته ثقافة أيضا، فالتبادل يحدث في اللغة وفي الثقافة فيتسع أفق المتعلم ويصبح أكثر نضجا، كما يذكر أن دور المعلم لم يكن غائبا تماما، فلجأ إلى التنوع في الحصول على المادة العلمية من اكثر من مصدر .
أما عن الصعوبات التي واجهته فيؤكد أن تعلم أي لغة لا يمثل أي صعوبة إلا ما نضعها نحن لأنفسنا كأن نحدد مجموعة كلمات مثلا نحفظها يوميا بطريقة التلقين والحفظ بالكم لا الكيف أو حصر التعلم في قواعد اللغة لدخول الامتحان والنجاح ثم الإلقاء بهذا الكم خارج عقولنا.. وفي هذا الشأن ينتقد "أحمد" طريقة تدريس اللغة في المدارس مؤكدا أنه لا يتم تدريسها بشكل مبتكر وفعال كأن يقوم المدرس مثلا بتقسيم الفصل لمجموعات وإعطاء كل مجموعة تكليف معين بسماع شريط باللغة الإنجليزية أو قراءة قصة أو إجراء حوار، فعلى المدرس أن يتحدث باللغة ويمارسها مع الطلبة وهي الطريقة التي ستشكل لهم صعوبة في البداية، لكن سرعان ما سيعتادون على الحديث ويألفون اللغة، ويذكر أنه كان يحضر العديد من الندوات والجلسات الثقافية المقامة باللغة الإنجليزية على الرغم من كونها في مجالات لا تهمه كالطب والتجارة، لكن دأبه كان تحصيل العلم وتطوير الذات، ففي المرة الأولى كان يستوعب 3% مما يقال، وكانت النسبة تزيد مرة تلو الأخرى إلى أن أصبح هو بنفسه يحاضر في مثل تلك الندوات ويشارك فيها ويعيها 100%.
وأما عن فكرة تأسيس فريق "نوبيا تيم" فكان الهدف منه اجتماعيا خيريا، حيث أراد "أحمد" أن ينقل فكر العمل الجماعي الخيري الذي وجده عندما شارك في فريقي "رسالة، و"معا" في القاهرة إلى النوبة، ثم تطورت الفكرة بعرضه لفكرته الخاصة باللغة على فريقه الذي وافق عليها وقاموا بالاتفاق مع محاضرين ليقدموا هذه الخدمة المجانية لتعليم اللغة وتعليم الحاسب الآلي لتتحول النوبة إلى بلد يتحدث الإنجليزية بطلاقة بسبب شخص قرر أن يعتمد على ما لديه من وسائل العلم ويعلم نفسه بنفسه، وهو الآن يعيد تنفيذ فكرته الخاصة بالتبادل اللغوي في الأكاديمية العربية لينقل تجربة نجاحه من مكان إلى آخر.
تعليم غير مباشر
إلى ذلك، يحدثنا د.صالح محمد صالح أستاذ المناهج وطرق التدريس بكلية التربية قائلا: التعلم الذاتي في أبسط مفاهيمه هو" كيف يتعلم المتعلم أو كيف يعلم المعلم المتعلم؟!" موضحا الفارق بين مصطلحي التعلم الذاتي والتعليم التقليدي بأن التعلم الذاتي خاص بالمتعلم، أما التعليم التقليدي فهو خاص بالمعلم، لذلك فالتعلم الذاتي منوط بالحديث بشكل أساسي عن المتعلمين الذين يعلمون أنفسهم بأنفسهم بإرشاد وتوجيه من المعلم، وهذا لا يعني الاستغناء عن دور المعلم لكن في الحقيقة دوره يتعاظم ويتعقد في ضوء المعطيات الجديدة ليصبح مرشد وموجه ومصنف، وذلك أن دور المعلم في التعلم الذاتي ليس كدوره في التعليم التقليدي الذي يجعله لا يهتم إلا بتدريس منهج معين في وقت محدد بغض النظر عن مدى استيعاب الطالب لهذا المنهج.
ويستشهد د.صالح بإحدى أساليب التدريس الإبداعية التي قام بتنفيذها في كلية التربية بعقد مجموعة من الحلقات البحثية للنقاش وتبادل الآراء العلمية الذي يحدث في مكان واحد بحضور الجميع فيما يعرف بـ"السيمينار" لكن الإبداع كان في طريقة عقد هذه السيمينارات التي واكبت المستجدات التكنولوجية الحديثة من خلال الاتفاق على موعد محدد يجتمع فيه الأساتذة والطلاب على الشبكة العنكبوتية ويتم تحديد قائد لإدارة الحوار، ولم تكن هذه الفكرة قائمة على أساتذة وطلاب مصر فقط، بل تمت دعوة المهتمين من المملكة العربية السعودية والإمارات وغيرها من الدول، وقد أثمرت هذه التجربة بشكل مباشر من خلال تعليم الطلاب المهارات البحثية وبشكل غير مباشر من خلال تحسن قدرة الطلاب على التعامل مع التكنولوجيا الحديثة وقد حصلت هذه التجربة على أفضل ممارسة علمية بكليات التربية على مستوى مصر.
كما أكد د.صالح أهمية التنوع والإبداع في أساليب التعلم للمساهمة في إرساء مبادئ التعلم الذاتي والتي تعني أن يقوم المعلم بالتدريس بالطريقة التي تناسب المتعلم وليست التي تناسب المعلم؟! موضحا أن هناك من الطلاب من يفضلون التعلم من خلال الخرائط الذهنية والبعض من خلال الصور وآخرون من خلال الأسلوب القصصي وغيرهم بالمعادلات الحسابية.. لذلك يجب تقديم العلم بالطريقة التي يفضلها المتعلم.
ويتحدث الدكتور عن إحدى النظريات الحديثة في الأدب التربوي التي تثبت أن الجميع أذكياء ومن يطلق على غيره لفظ غبي أو متخلف فهو مخطئ، وذلك فيما يعرف بنظرية "الذكاءات المتعددة" وعلى الرغم من أن مؤسس النظرية يهودي إلا أن نظريته هذه تثبت عدالة الخالق، إذ أن لدينا جميعا ذكاء منحه لنا الله لكن نبدع أو نتذاكى أو يكون لدينا نوع واحد من الذكاء يفترق أو يفارق أو يختلف عن الآخر.. فهناك مثلا من هو ذكاءه بصري وغيره ذكاءه رياضي وهكذا فدور المعلم أن يكتشف طريقة التعامل التي تنمي وتدعم ذكاء كل طالب.
وأكد الدكتور في حديثه على أهمية التعلم الذاتي الذي يخرج طالب متكامل واع لمشاكل مجتمعه كفء لديه من القدرات والمهارات ما يؤهله للمشاركة الفعلية في نهضة بلاده ، مؤكدا أن السبيل لتحقيق أي نهضة هو النهوض بمستوى التعليم مستشهدا بتجارب الدول التي أدركت ذلك كالولايات المتحدة التي أدركت أهمية العلم بعد فزعها من التقدم العلمي للإتحاد السوفيتي آنذاك وأطلقوا المشاريع القومية للعلوم فمثل هكذا يجب الاهتمام بالعلم والعلماء والبحث العلمي وتخصيص جزء كبير من ميزانية الدولة لهذه الشئون.
إلا أنه رأى أن أكثر ما يؤثر سلبا على عملية التعلم الذاتي هو عدم مواكبة المعلم لمتطلبات هذا الوضع الجديد فمعظم المعلمين لا يحصلون على بعثات تعليمية أو دورات تدريبية فعلية تنمي من مهاراتهم ولا تكون هذه الدورات أكثر من كونها دورات روتينية لزيادة الدخل وليس لزيادة المستوى التعليمي للمعلم الذي ينعكس بالطبع على العملية التعليمية كاملة، كما شدد على ضرورة الالتزام بتأهيل المعلم في كليات التربية ولا يجب السماح لأي شخص بامتهان هذا العمل المؤثر في صناعة الأجيال.
النية والهدف
وينصح د.صالح كل من يريد أن يطور من ذاته ويتعلم ذاتيا بأن يعقد العزم والنية أولا متوكلا على الله ثم يفكر في هدفه، فما الذي يريد أن يصل إليه في القادم من أيامه؟ وبوضوح رؤيته نصب عينيه فإن حماسته ستصبح شعلة لا تنطفئ ولا يصيبها الملل ولا الفتور ويساعده على ذلك استعداده الدائم لملاحقة التطور واستخدام الوسائل التكنولوجية المتاحة لديه، إضافة إلى الاهتمام بعنصر الوقت، فعلى الأقل يجب على كل فرد أن يخصص لنفسه ساعتين يوميا فيما يعرف "بوقت تطوير الذات" يتعلم فيهما الجديد وينمي مهاراته، لأنه مهما حصل من العلم كل يوم تظهر نظرية جديدة، فعليه أن يدرك أن تحصيل العلم مستمر معه من المهد إلى اللحد، وأن يؤهل نفسه بنفسه وفقا لما هو متاح من وسائل، وأن يتذكر دائما أن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة فلا يفتر حماسه.