تمت الإضافة بتاريخ : 20/06/2012

"المظهرية".. مرض يلتهم قيم المجتمع وقدراته

إيمان حسن

تقدم لخطبة "ندا" شاب نحسبه على خلق ودين، فرح به الأهل ووجدوا فيه الشريك المناسب لابنتهم، ولكن سرعان ما تغير الحال لأن الشاب الذي تقدم لابنتهم ليس في مقدوره دفع المهر ولا تجهيز شقة مكونة من خمس غرف، كما يطمح الأهل، وبالشكل الذي يجعلهم يتباهون ويتفاخرون به أمام الناس، والغريب في الأمر أن أهل "ندا" بسطاء الحال ليس في إمكانهم أصلاً تجهيز ابنتهم، ولكنهم يريدون ألا تكون ابنتهم أقل من أى فتاة تزوجت في العائلة، كذلك كان تفكيرهم كيف تكون ابنتهم الأفضل، حتى وإن كان ذلك فوق إمكاناتهم المتواضعة، ولم يدرك الأهل للحظة واحدة أنهم بتصرفهم هذا قد يضعون ابنتهم في طابور من العوانس ومتأخرى الزواج لمجرد مظاهر كاذبة خادعة وتنافس على دنيا واهية.

لقد سيطرت هذه «المظهرية» الجوفاء على القلوب والعقول، وأصبحت بانتشارها أحد أسباب مرض المجتمع وكانت سبباً في قطع الأرحام، وإنهاك الفقراء وإذلالهم بالديون، والتهمت مال الأغنياء في الإنفاق في غير الوجه الصحيح، وأدت لمزيد من التنافس والتقليد الأعمى والتباغض والتحاسد وعدم القناعة والتطلع، هذه «المظهرية» التي تظهر عكس الحقيقة والواقع وتمتطى جياد الكذب والنفاق، والتي لم ترحم غنياً ولا فقيراً إلا وألبسته ثوب الخداع والكبرياء والغرور، ف «سامى عبد الحى» الشاب الذي كان يعمل «سباكًا» والحاصل على بكالوريوس تربية، شعر بالمهانة وهو يعمل هذه المهنة وسط أهله وأقرانه وجيرانه، ورغم ما كان يحصل عليه من مبالغ باهظة نتيجة هذه المهنة الشريفة في بلده رفض أن يعمل بها وسط من يعرفونه وقرر السفر لإحدى الدول والتي امتهن بها نفس المهنة وقد يكون العائد المادى غير مجزٍ ولكنه فضل أن يقال إنه يعمل بالخارج كوجاهة اجتماعية، عن بقائه في وسط أهله وهم يعلمون المهنة التي يعمل بها.

أما مروة فاروق فهى تتباهى بإلمامها باللغات الأجنبية لاسيما الإنجليزية حيث يذهب بها حب التفاخر و«المظهرية» إلى استخدام ألفاظ أجنبية بصورة متكررة في أحاديثها العادية مع الناس، معتبرة أن النطق بهذه الألفاظ دليل التمدن والرقى والتحضر.

ونتيجة لما ظهر في المجتمع من غنى فاحش ووفرة مالية ونزعة استهلاكية متوحشة والرغبة في تملك كل شىء أراده المرء أو لم يرده وأيضاً التباهى بأمور ترفيهية غير أساسية، كل هذا أدى إلى التنافس على أمور الدنيا وأدى، على الجانب الآخر، إلى تقليد البعض للبعض الآخر حتى وإن كان هذا التقليد يتطلب ما هو فوق طاقتهم واستطاعتهم المادية وما يلحقه من مد اليد والاستدانة، فقد دفع التنافس أمل عبدالله إلى الاستدانة لإلحاق ابنها بإحدى مدارس اللغات الدولية على غرار أطفال العائلة، رغم ظروف زوجها.

أما هبة محمد التي تتصف بنزوعها الاستهلاكي المفرط، فقد تعدى هذا النزوع الاستهلاكي مجرد تلبية حاجات معقولة لأشياء أساسية إلى نزعة ظهورية تفاخرية ومحاكاة وتقليد اجتماعي، كما أصبحت مهووسة بالماركات العالمية التي انتشرت بكثرة في الأسواق، فهي ترى أن اقتناءها الماركات يعزز من وجاهتها الاجتماعية ويجعلها متميزة عن غيرها وإن كلفها هذا التميز مبالغ طائلة تؤثر على دخلها المادي.

fiogf49gjkf0dGHT: 150%; TEXT-ALIGN: justify">مرض اجتماعي

الأستاذ الدكتور حمدي حافظ الخبير الاجتماعي ووكيل وزارة الشئون الاجتماعية السابق يرى أن قضية المبالغة في الاهتمام بالمظاهر والشكليات انتشرت بشكل كبير خلال العقود القليلة الماضية وأن لها جذورا اجتماعية تتعلق بالطبقات، ويرى أن بداية هذه الظاهرة جاءت بالتوافق مع انتشار ظاهرة الغنى الفاحش واتخاذ الأغنياء أماكن خاصة بهم حيث أنشأوا الكمبوند والشواطئ الخاصة بهم والمدارس الدولية والنوادي فتطلعت إليهم فئات المجتمع، غير أن الطبقة المتوسطة، كما يرى، كانت أقل تطلعاً لأنها استمدت ثقتها بنفسها من علمها وثقافتها وما ترسخ لديها من مبادئ وقيم، أما الطبقة الفقيرة فكانت أكثر تطلعاً نتيجة فقدان الثقة وانحراف الأخلاقيات والقيم وأثر هذا الغنى الفاحش في وجدان الفقراء وحدث ما سُمى بالحراك الطبقي فقام البعض بالتطلع للطبقة العليا سواء بطرق مشروعة أو غير مشروعة وكانت النتيجة أن استدان البعض واقترض البعض ودخل البعض الآخر السجن نتيجة أقساط السيارة والشقة وتجهيز العرائس وتكاليف الأفراح وغيره.

ويقر الخبير الاجتماعي الدكتور حمدي حافظ بأن «المظهرية» تعد أحد أسباب انهيار الاقتصاد المصري ويرى أن التجار استغلوا حب الناس لها فأتوا بكل ما هو غالٍ ونفيس من الماركات والموديلات العالمية، وعلى الجانب الآخر لا ينكر الدور الذي يؤديه الإعلام عبر عقود ماضية من خلال الأفلام والمسلسلات التي أعلت من القيم المادية واهتمت بالمظاهر والشكليات على حساب القيم والمبادئ التي تحث على القناعة والعفو عند المقدرة والإيمان بالقضاء والقدر وغيرها من القيم الدينية والاجتماعية.

وتعجب الدكتور حمدي حافظ من اهتمام المجتمع المسلم بالشكليات، ويرى أن هذا المجتمع يستمد قيمه من دينه الذي يحثه على التواضع والاهتمام بالجوهر لا بالمظهر ضارباً مثالا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه حينما أتاه رسول كسرى، والذي مكث يبحث عنه في المدينة حتى وجده ينام تحت شجرة فقال كلمته المشهورة حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر، وأكد أن هذه «المنظرة» غير موجودة في الغرب، واستدل علي ذلك بموقف حدث له في ألمانيا أثناء مناقشة رسالة الدكتوراه الخاصة به، حيث كان البروفيسور الذي يشرف على رسالته يرتدى بنطالا «جينز» ممزَّقا وقميصا قديما فتعجب لما رأى كيف لعالم اجتماع ورجل علم ويعيش في ألمانيا أن يرتدى مثل هذه الملابس، وعلم بعدها أن هذا العالم لا يهتم بالشكليات والمظاهر الخارجية قدر اهتمامه بالمضمون والجوهر.

فقدان الثقة بالنفس

الاهتمام بالمظهر الخارجي لا يتعلق بالمرض النفسي، هذا ما أوضحته الأستاذة الدكتورة نهى أحمد صبري- أستاذ الطب النفسي بكلية طب قصر العينى والتي ترى أن المظهر هو أول تلاقٍ مع الآخر وأن طبيعة الإنسان تقتضى الاهتمام بهذا المظهر، وترى أن الحالة الوحيدة التي يتحول فيها الاهتمام بالشكل والمظهر إلى مرض عندما يكون هذا الشكل مجرد قناع أو قشرة خارجية لا تتعلق بالجوهر وعندما يكون التناقض بين ما هو داخلي وخارجي واضحًا، وهذا المرض له أعراض ومواصفات وآلام، وغالباً فإن الاهتمام بالمظهر بشكل زائد نعتبره اضطرابا في الشخصية وطريقة من طرق الدفاع السلوكي.

ويلجأ الشخص للمظاهر الخارجية كما تشير الدكتورة نهى أحمد نتيجة ضعف الشخصية، فيعتمد على الشكل الخارجى لإخفاء الضعف الداخلي خاصة في حالات فقدان الثقة بالنفس فيعتمد على الآخرين في تقديره لذاته حتى إن جاء هذا على حساب إمكاناته الذاتية.

ولكن كيف نتعامل كأشخاص أسوياء مع مثل هذه الحالات في المجتمع؟

ترى الدكتورة نهى صبري أن التعامل مع هذا الشخص يكون على حسب أهميته فإن كان شخصا عابرا فلا اهتمام بما يقوله أو يصدره من أفعال حتى إن كانت مستفزة ومنفرة للناس، وفي حالة كونه شخصا قريبا فلا ينبغى الاهتمام بالابتزاز النفسي الذي يسببه هذا الشخص بل يتم التركيز على جوهر الشخصية.

حب الدنيا والتنافس عليها

من جانبه يرى الدكتور عوض سعد الأستاذ بجامعة الأزهر أن حب الدنيا والتنافس عليها سبب رئيسي في هذه الظاهرة، مؤكداً نبذ الإسلام لهذه الصفة الذميمة في الإنسان، ودعوته إلى القناعة والعفاف، والتحذير من الاستكثار المذموم من الدنيا ومظاهرها البراقة، والتوجيه إلى الاشتغال بمعالي الأمور، والاستعداد ليوم المعاد، وتوظيف ما بأيدينا من الدنيا لخدمة الدين وتعمير الآخرة، دون إفراط ولا تفريط، مشيراً إلى قوله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) (المؤمنون:101)، مطالباً بمزيد من التواضع ومن الاقتراب من الدين والتفكير في الآخرة والبعد عن حب الدنيا وشهواتها وملذاتها.

 

ويفرق الدكتور عوض سعد بين نوعين من التفاخر؛ تفاخر مذموم كأن يمنّ الإنسان على الناس بما وهبه الله عز وجل أو بما ليس عنده أصلاً وتفاخر محمود حث عليه الإسلام ويكون ذلك فقط أمام الأعداء وذلك كالذي فعله سيدنا أبو دجانة حيث أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد بأن يمشى متبخترا أمام المشركين لإظهار عزة المؤمن وقوتهم، وفي ذلك غيظ وكيد للمشركين، وفي الحديبية ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه جمل أبى جهل الذي غنمه في بدر لإغاظتهم.

فالقناعة والرضا من أسباب السعادة القلبية والراحة البدنية، فحقيقة الغنى فيما يكون في القلب من قناعة ورضا وليس فيما يكون في اليد من أموال ومقتنيات كما قال: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس".

وقوله صلى الله عليه وسلم «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» من الحكم النبوية الجليلة التي تعالج هذا السلوك المرضى، والذي ابتلى صاحبه بداء «المظهرية»، وظن أن الاستكثار من المظاهر البراقة يرفع صاحبه أو يزيد من غناه في أعين الناس، فيجب أن يرضى المسلم بما قسم الله عز وجل له، ولا يظهر نفسه بأعلى مما هو فيه، ولا يحمل نفسه من النفقات والديون ما لا يطيق ليظهر بصورة تخالف واقعه وحقيقة أمره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجمعية الشرعية