المشرف العام
معلومات
علماء الإسلام في الأندلس 4
 
تمت الإضافة بتاريخ : 31/12/2017م
الموافق : 13/04/1439 ??

علماء الإسلام في الأندلس 4

 محمد الخضر حسين

اعتزاز علماء الأندلس بمقاماتهم العلمية:

أخرجت معاهد العلم بالأندلس رجالاً كانوا يعتزون بمقاماتهم العلمية، فلا تستخفهم الحظوة عند رئيس أعلى، ولا تتعاظمهم الولايات وإن كبر سلطانها وملأت الأبهة ما بين جوانبها، ويتجلى هذا الخلق العظيم في مظاهر كثيرة، وإليكم طائفة من أمثلته:

 

من هذه المظاهر أن فريقاً منهم تقلدوا منصب القضاء في قرطبة وغيرها فاعتصموا فيه بحبل العدل، وأقاموا المساواة على وجهها، فلا فضل لصاحب الدولة على أدنى الناس منزلة وأقلهم ناصراً إلا بتقوى الله تعالى.

 

رفع رجل من كورة جيان إلى محمد بن بشير قاضي قرطبة قضية على الحكم بن هشام صاحب الأندلس، ولما استبان القاضي صحة البينة، حكم على الأمير وآذنه بأنه إذا لم ينقد للحكم ويُذعن لإنفاذه، تخلى عن ولاية القضاء غير حريص عليها، فما وسع الأمير إلا أن يمد عنقه لقضاء محمد بن بشير مرغماً.

 

فسيرة ابن بشير في نحو هذه الواقعة دليل على خلق اعتزازه بالعلم، وأنه لم يتقبل الولاية إلا ليظهر حقاً أو يصرع باطلاً.

 

ورفعت إلى محمد بن بشير هذا قضية كان أحمد الخصمين فيها سعيد بن عبد الرحمن الداخل، عمّ الحكم بن هشام واستشهد سعيد في القضية بالحكم نفسه، وكان يحسب شهادة أمير البلاد ضربة لازب، وأنها لا تقع في مجلس القاضي إلا موقع الحجة القاطعة للنزاع، فلما نظر ابن بشير في الشهادة قال لوكيل سعيد بن عبد الرحمن: (هذه شهادة لا تعمل عندي، فجئني بشاهد عدل)فبهت الوكيل دهشة، وأنهى سعيد الأمر إلى الحكم، وأخذ يغريه بالقاضي ويحرضه على الإيقاع به، فقال له الحكم: القاضي رجل صالح لا تأخذه في الله لومة لائم، ولست أعارضه فيما احتاط به لنفسه، ولا أخون المسلمين في قبض يد مثله، ولما خوطب ابن بشير في رد شهادة الحكم قال: إنه لابدَّ في الشهادة من الإعذار، ومن الذي يجترئ على الطعن في شهادة أمير المؤمنين لو قبلتها، وإذا لم أعذر كنت بخست المشهود عليه حقه.

 

ولمنذر بن سعيد البلوطي في هذا الشأن وقائع يرفع بها العدل رأسه عزيزاً متعاظماً، ومن هذه الوقائع أن الخليفة عبد الرحمن الناصر دعته الحاجة إلى شراء دار ووقع اختياره على دار يملكها بعض الأيتام، فأرسل إليها مقوماً، وأرسل من يخاطب ولي الأيتام في بيعها، فذكر له الولي أن بيع الأصول موقوف على رأي القاضي ومشورته، فأرسل الخليفة إلى القاضي منذر بن سعيد ليأذن ببيع الدار، فأجابه منذر بأن ليس للأيتام حاجة إلى بيع هذه الدار، فإن بذلت لهم من الثمن ما تستبين به الغبطة أذنت للولي ببيعها منك، فسكت الناصر حيناً وخشي منذر أن تنبعث منه ثورة يهتضم بها حق الأيتام فأمر بنقض بناء الدار وباع أنقاضها فكانت قيمة الأنقاض فوق ما قومت به للخليفة من قبل، فاتصل الخبر بالناصر فسأل القاضي عما صنع فقال له: نعم، وأخذت فيما صنعت بقوله تعالى:[أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا] {الكهف:79}.فصبر الناصر وقال: نحن أول من ينقاد إلى الحق فجزاك الله تعالى عنا وعن أمانتك خيراً.

 

إن سيرة أمثال محمد بن بشير ومنذر بن سعيد تنبه الناس إلى أن علوم الإسلام ترفع همة الراسخ في فهمها، وتطبع في نفسه عزة وتقوى يجعلان القضاء في حرية فوق الحرية التي تسنها هذه القوانين الوضعية.

 

ومن مظاهر اعتزازهم بالعلم: أن كثيراً منهم كانوا يزهدون في المناصب ولا يقيمون لها- وإن عظم سلطانها -وزناً، فهذا أبو محمد بن حزم كان وزيراً لعبد الرحمن بن هشام الأموي، فرأى أن مقام العلم فوق كل مقام فخلع طوق الوزارة من عنقه اختياراً، وأقبل على البحث والتأليف، فقدم عملاً صالحاً وأبقى أثراً في العلم نافعاً.

 

وهذا زياد بن عبد الرحمن أحد أصحاب مالك الذين دخلوا بمذهبه بلاد الأندلس، أراده الأمير هشام بن عبد الرحمن على قضاء قرطبة بإلحاف، فأبى قبول هذا المنصب بتصميم، ومما اتخذه وسيلة للتخلص من الولاية أن قال للوزراء الذين خاطبوه في شأنها وأبلغوه عزم هشام على توليته إياها: أما إن أكرهتموني على القضاء، فاعلموا أنه إن أتاني مدَّع في شيء بأيديكم، لا يكون إلا أن أخرجه منكم، ثم أجعلكم مدَّعين فيه حتى تقيموا عليه البينة، فلما سمعوا منه هذه العزيمة تيقنوا أنه سيفعل ما يقول: فسعوا لدى هشام في معافاته وصرف الولاية إلى غيره.

         أضف تعليق