المشرف العام
أفكار
وسائل تغيير المنكرات وإزالتها
 
تمت الإضافة بتاريخ : 19/02/2020م
الموافق : 25/06/1441 ??

وسائل تغيير المنكرات وإزالتها

سلمان العودة

* أولاً: سلاح الكلمة: وهو المعبَّر عنه في حديث أبي سعيد بالتغيير باللسان، ويشمل الإنكار باللسان، أو بالكتابة؛ بأي طريقة كان.

وهذا باب واسع، يدخل فيه الخطاب المباشر لأولي الأمر وغيرهم ببيان المنكرات، وتحريمها، وخطرها؛ بأوضح بيان وأفصح عبارة، كما يدخل فيه الخطابة -باعتبارها وسيلة من وسائل البيان والإنكار، وفق ضوابط المصلحة-، وهي تصل إلى أسماع المقصودين بها - أيًّا كانوا -، بشكل مباشر أو غير مباشر، وباعتبارها أيضًا وسيلة من وسائل الضغط وتحميس الناس لمحاربة المنكرات ومخاطبة المعنيِّين بشأنها.

وقد أصبح الشريط الإسلامي وسيلة إضافيَّة، أسبغت على سلاح الكلمة قوةً ومضاء وفاعليَّة جديدة، ضاق به المغرضون من العلمانيين والمفسدين في الأرض، فسعوا إلى حربه بكل وسيلة، ولكن هيهات!

كما يدخل فيه العمل على توعية الناس بالمنكَرات وخطرها، وضرورة مقاومتها ومقاطعتها.

وتدخل فيه الكتابة الشخصية إلى أهل المنكرات، ومناصحتهم من خلالها.

ومثلها الكتابة العامة في الصحف والمجلات، أو تأليف الكتب والرسائل، وهذا العمل الضخم يحتاج إلى جهد كبير.

إن توعية الناس وتحذيرهم من المنكرات - حتى المنكرات الرسمية العامة - عمل جبَّار، إذ لم تكن هذه المنكرات لتنتشر وتفشو؛ لولا قبول الناس عامة لها، وتلبُّسهم بها؛ فهم ميدانها ومادتها.

صحيح أنه تقرَّر سابقً أن في كل مجتمع قوَّة خفية من المنافقين، تقف خلف المنكرات، وتدعمها، وتحميها، ولكن ما كان لهؤلاء الجبناء أن ينتصروا ويفلحوا فيما يريدون لولا أن البيئة من حولهم لا تملك المناعة ضد جرثومتهم! وسلاح الكلمة سلاح خطير، كان الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه يتَّخذونه ويواجهون به أعداءهم الذين يملكون القوى المادية والبشرية، وكذلك تبع الأنبياء عبر العصور، ويدخل في هذا النوع الجهاد بالجهر بكلمة الحق أمام المبطلين من الزعماء والعلية وغيرهم، وهو من أفضل أنواع الجهاد.

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر".

وللحديث شواهد منها: حديث أبي أمامة، وطارق بن شهاب، وسمرة ابن جندب، وعمير بن قتادة الليثي، وجابر.

فعن أبىِ أمامة رضي الله عنه؛ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند الجمرة الأولى، فقال: يا رسول الله! أي الجهاد أفضل؟ قال: فسكت عنه ولم يجبه، ثم سأله عند الجمرة الثانية؟ فقال له مثل ذلك، فلما رمى النبي صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة، ووضع رجله في الغرز؛ قال: أين السائل؟ قال: "كلمة عدل عند إمام جائر".

وعن طارق بن شهاب: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز: أي الجهاد أفضل؟ قال: "كلمة حقٍّ عند سلطان جائر".

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الجهاد أن تتكلَّم بالحق عند سلطان (أو قال: عند سلطان جائر)".

وعن عمير بن قتادة الليثي رضي الله عنه؛ قال: كانت في نفسي مسألة قد أحزنتني أنني لم أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ولم أسمع أحدًا يسأله عنها، فكنت أتحيَّنه، فدخلت عليه ذات يوم وهو يتوضأ، فوافقته على حالتين كنت أحب أن أوافقه عليهما، وجدته فارغًا وطيب النفس، فقلت: يا رسول الله! أتأذن لي أن أسألك؟ قال: "نعم؛ سل عمَّا بدا لك". قلت: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: "السماحة والصبر". قلت: فأي المؤمنين أفضل إيمانًا؟ قال: "أحسنهم خلقًا". قلت: فأي المسلمين أفضلهم إسلامًا؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده". قلت: فأي الجهاد أفضل؟ فطأطأ رأسه، فصمت طويلاً، حتى خِفت أن أكون قد شققت عليه، وتمنَّيت أني لم أكن سألتُه، وقد سمعتُه بالأمس يقول: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا لَمَن سأل عن شيء لم يحرَّم عليهم، فحُرِّم عليهم من أجل مسألته". فقلت: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله صلى الله عليه وسلم، فرفع رأسه، فقال: "كيف قلت؟". قلت: أي الجهاد أفضل؟ فقال: "كلمة عدل عند إمام جائر".

وعن جابر رضي الله عنه؛ قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من رمي الجمار ماشيًا، فأمر بناقته، فأنيخت، فلما أخذ بشعبتي الرحل؛ جاء رجـل، وأخذ بجديل الناقة، فقال: يا رسول الله! أي الفضل أفضل؟ قال: "كلمة عند إمام جائر، خَلِّ سبيل الناقة".

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء حمـزة بن عبد المطَّلب، ورجـل قام إلى إمـام جائر، فأمره ونهاه، فقتله".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله : "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطَّلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه، فقتله".

وإنما كان هذا النوع من الأمر والنهي أفضل الجهاد وأعظمه؛ لأنه كما قال السِّندي - رحمه الله -: "جهاد قلَّ من ينجو فيه، وقلَّ من يصوِّب صاحبه؛ بل الكل يخطِّئونه أولاً، ثم يؤدي إلى الموت بأشد طريق عندهم؛ بلا قتال؛ بل صبرًا" و.

وليس غريبًا على الباذلين أنفسهم لله أن يقولوا كلمة الحق غير هيَّابين، وأن يقفوا عند كلمتهم، وأن يموتوا في سبيلها.

وقد أثنى الإمام مالك على محمد بن المنكدر وأصحابه، وعلى ربيعة، وعلى سعيد بن المسيب؛ في أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وذكر ما لقوه من الشدة في ذلك.

وأثنى الإمام أحمد على ابن مروان الذي صُلِب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إن كلماتنا وأفكارنا تظل جثثًا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها وغذَّيناها بالدماء؛ انتفضت حيَّة، وعاشت بين الأحياء...

فرقٌ كبير بين كلمات خاوية هي عرائس من الشمع، وبين كلمات دبَّت فيها الحياة؛ فهي مليئة بالحرارة والقوة والتأثير!

* ثانيًا: ومن الوسائل المهمَّة للتغيير، والتي يجب أن يعتني بها علماء الطائفة المنصورة في هذا العصر خاصة: الاهتمام بتربية الجيل وبنائه بناءً إسلاميًّا متكاملاً؛ بحيث لا تقتصر مهمة العالم على مجرَّد إيصال المعلومات والأحكام النظرية إلى الناس؛ بل يضيف إلى ذلك: التركيز على البناء الخلقي والسلوكي والعقلي والعاطفي للطلبة، والعناية بغرس قضية الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله باللسان والسنان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والغيرة على الحرمات، وهذا يجعل حلقات الدرس والعلم محاضن لتربية الشـباب وحمـايتهم من فسـاد البيئة، وتهيئة الجو المُعين على الاستقامة والصلاح.

وبهذا يمكن تكوين جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله؛ بحيث لا يتحوَّل الأمر والنهي إلى جهود فرديَّة متشتَّتة قليلة الفائدة.

ولا يتم الأمر والنهي والإنكار والدعوة والتربية بمعزل عن علماء السنة المخلصين.

وهذا الجهد التربوي، وإن كان بطيئًا؛ إلا إنه بعيد الأثر، وهو ضمانة حقيقية للجيل الحاضر والأجيال اللاحقة، وإعدادٌ ملائمٌ للأحوال والأوضاع المستقبلة، والتي يُنتظرُ أن يكون فيها مزيد من: حرب الإسلام، والنيل من شعائره وشرائعه، وإحكام الحصار والغربة عليه وعلى أهله العاملين به.

وهذه الفئات المؤمنة المربَّاة يمكن أن تقوم بالأمر والنهي والإصلاح بكافة الوسائل؛ عبر الأجهزة الرسمية والشعبية وغيرها؛ من منطلق الغيرة على الدين والرغبة في الإصلاح، لا من منطلق العمل الوظيفي أوغيره.

* ثالثًا: ومنها ضرورة العمل الجاد على تدعيم مكانة العلماء والدعاة والغيورين في المجـتمعات الإسلامية، حتى تكون كلمتهم نافذة، ورأيهم مسموعًا.

إن الثقل الذي يملكه العالم أو الداعية بين الناس من أقوى الوسائل في تغيير المنكرات وهزها؛ بل وهز أصحابها والمنافحين دونها.

أما حين ينفصل العالم عن مجتمعه، أو يستجلب كراهيتهم وبغضاءهم؛ فإنه حينئذ لا يُسمع له صوت، ولا يُستجاب له مطلب.

ولقد كان علماء السلف هم القادة الحقيقيون للمجتمعات، حتى كان الخلفاء يهابونهم ويعظِّمونهم ويدركون أن ملكهم لا يستقر إلا برضاهم وعونهم، وذلك بتطبيق شرع الله، واتِّباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وتراجم هؤلاء الأئمة حافلة بالأخبار والأعاجيب الدالة على تربُّع مكانتهم على عروش القلوب، حتى ليحسبها الناس في هذا العصر ضربًا من الخيال.

ويكفي منها ما رواه أشعث بن شعبة المصيصي؛ قال: "قدم الرشيد الرَّقَّة، فانجفل الناس خلف ابن المبارك، وتقطَّعت النعال، وارتفعت الغبرة! فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب، فقالت: ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قدم! قالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَط وأعوان" !

إن من الواضح أن الزعماء المتشبِّثين بكراسيهم مستعدون للتخلِّي عن دعم المنكرات؛ بل ولإظهار محاربتها، إذا علموا أن أمرهم لا يتمُّ ولا يدوم إلا بذلك، وهذا لا يكون إلا بوجود العلماء الغيورين الذين يحظَوْن باهتمام الناس ومحبَّتهم وطاعتـهم، وربَّ فتوى من عالم زلزلت عرشًا، وأسقطت رأسًا، وحرَّكت أمة!

فالزخم الشعبي الذي يملكه العالم من أهم أسباب: قوَّته في الإنكار، وجهره بالحق، ومواجهته للظالمين، والناس يعطون محبَّتهم للعالم المخلص العامل بعلمه الذي تتوفَّر فيه هذه الخصال:

1- العزوف عن الدنيا ومادِّيَّتها، وتركها لأهلها، وعدم التعلُّق بشيء منها، والاستعلاء على أعطيات السلاطين ومنحهم وهباتهم، مع الكرم والجود وبذل الوسع للناس.

وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله:

ومَنْ يَذُقِ الدُنْيـا فإنِّي طَعِمْتُـها *** وسِيقَ إِلَيْنـَا عَذْبُها وعَذابـُهـا

فمَـا هِيَ إِلاَّ جِـيْفَةٌ مُسْـتَحيلَةٌ *** عَلَيْهـا كـِلابٌ هَمُّهُـنَّ اجْتِذابُهـا

فإِنْ تَجْتَنِبْها كُنْتَ سِـلْمًا لأهْلِها *** وإنْ تَجْتَـذِبْها نَازَعَتْكَ كِلابُه!

2- الجهر بالحق والشجاعة في ذلك؛ فالعالم حين يجهر بالحق أمام رجل كبير من الوجهاء مثلاً يكسب من تأييد الناس ودعمهم ما يجعله يجد القوَّة للجهر بالحق أمام الأمير أو الوزير... وهكذا؛ فبين ثقة الناس وحسن ظنهم بالعالم وبين جهره بالحق وشجاعته فيه علاقة وطيدة متبادَلَة.

3- السهر على مصالح الناس، وحمايتهم من الظلم والعسف والسخرة، والتصدِّي للدفاع عن حقوق الشعوب، وبذل العالم نفسه وماله وجاهه لقضاء الحاجات الخاصَّة والعامة.

 

ولذلك كان من صفة العلماء الذين أحبَّهم الناس أنَّهم يقضون كثيرًا من أوقاتهم في قضاء حوائجهم؛ كما قال الذهبي عن ابن تيمية رحمهما الله: "وله محبُّون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التُّجار والكبراء، وسائر العامة تحبُّه؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهارًا؛ بلسانه وقلمه".

وإذا خلت الأمة من العالم الصادق الناصح الساهر على مصلحة الناس وعلى جهاد الظالمين وتخليص الناس من شرهم وظلمهم، فقد آذنت بالزوال والهلاك؛ لأنها خلت حينئذ من جانب عظيم من جوانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ إن تحقيق العدل بين الناس مطلب شرعيٌّ يلزم الوالي العمل على تحقيقه، ولا يجوز له إقرار الظلم؛ فضلاً عن أن يكون هو القائم به، ولا يجوز للعالم السكوت عن هذا المنكر، مهما كان مصدره؛ هيبة لفاعله.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتم أمتي تهـاب الظالم أن تقول له: إنك أنت ظـالم؛ فقد تُوُدِّعَ منهم".

وهذا الحديث، وإن كان في إسناده انقطاع؛ إلا أن معناه صحيح، وهو داخل في عمومات الأحاديث المبيَّنة عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعاجلة الله بالعقوبة للأمم التي تهاب عن الأمر والنهي والإنكار على الصغير والكبير.

وهذا كان شأن الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة؛ لا يتردَّدون في قول كلمة الحق أمام الخليفة أو السلطان:

وكان مِن الصحابة مَن ينكر على عمر؛ كما في قول أبي بن كعب له حين طلب من أبي موسى البيِّنة على حديث الاستئذان: "يا ابن الخطاب! لا تكوننَّ عذابًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وعلى عثمـان؛ كما في إنكـار علي رضي الله عنه نهيه عن المتعة في الحج.

وعلى معاوية؛ كما في إنكار ابن عباس عليه استلام الأركان كلها، فقال معاوية: "ليس شيء من البيت مهجورًا" .

وهم خلفاء، وكذلك مَن دونهم من الولاة والسلاطين.

وقد سبق ذكر أشياء من ذلك، وسبق ذكر فضل كلمة الحق والعدل عند السلطان الجائر.

والعالم إنما يستطيع أن يجهر بكلمة الحق إذا كان شجاعًا يثق بوعد الله ولا يبالي ما أصابه في سبيل الله، ويستطيع أن يجهر ويثق من الاستجابة له في تغيِير المنكر وإزالته إذا كان يملك العصبية التي تحوطه وتحميه، وهذه سنة لابدَّ من اعتبارها؛ ليتم الأمر والنهي، وتُحقَّق فائدتُه، وتُؤمَن مغبَّته.

وفي ذلك يقول الإمام ابن خلدون بعد كلام له عن أهمِّية العصبية في الدعوة الدينية: "ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء؛ فإن كثيرًا من المنتحلين العبادة وسلوك طرق الدين، ويذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف؛ رجاء في الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرِّضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل؛ مأزورين غير مأجورين؛ لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه.

قال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا؛ فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه".

وأحوال الملوك والدول راسخة قوية، لا يزحزحها ويهدم بناءها؛ إلا المطالبة القويَّة التي من ورائها عصبيَّة القبائل والعشائر".

والمقصود أن تغيير المنكرات الرسمية العامَّة يحتاج إلى تأييد شعبيٍّ للقائم بالتغيير، يجعله يثق بإذن الله من الإنجاح.

إن وجود عدد من العلماء والدُّعاة الغيورين في سائر بلاد الإسلام؛ يعرفون بين الناس بقول كلمة الحق، والمناداة بها، وحماية مصالح الشعوب، والدعوة إلى العدل الاجتماعي، والتحذير من الظلم والطغيان: وسيلة مهمَّة لتغيير المنكر؛ شريطة أن يلتزموا: الحكمة في أفعالهم، والعدل في أقوالهم، والإخلاص في مقاصدهم، ثم لا يضرهم بعد ذلك ما يقول الناس.

* رابعًا: ومن الوسائل المهمَّة للتغيير: اعتزال المنكرات وهجرها، ومجانبة أصحابها والقائمين عليها؛ فإن الواجب على مَن لا يرضون المنكر: ألا يتلبَّسوا بشيء منه، وألا يجالسوا متعاطيه مجالسة المقر والمؤيد والموافق.

وقد بيَّن الله تعالى أن منهج الأنبياء وأتباعهم: اعتزال المنكرات، واعتزال أهلها ودعاتها، والاشتغال بضدها من الخير والبر والمعروف.

قال تعالى ذاكرًا قول إبراهيم عليه السلام: (وأعْتَزِلُكمْ وََما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وأدْعُو رَبي عَسى ألاَّ أكونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) .

وقال عن أهل الكهف: (وإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ومَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلى الكَهْفِ).

وقد نهى الله تعالى عن القعود مع الخائضين في آيات الله، وأمر بالإعراض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، فقال: (وَإذَا رَأَيْتَ الَّذينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَديثٍ غَيرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمينَ).

وبيَّن في موضع آخر أن مجالسة الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها دون إنكار عليهم ولا امتعاض من فعلهم؛ أنها تقتضي موافقتهم موافقة تامَّة فيما هم عليه من الكفر والاستهزاء، فقال سبحانه وتعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ في الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَديثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقينَ والكَافِرينَ في جَهَنَّمَ جَميعًا).

إن هذه الوسيلة؛ وهي وسيلة اعتزال المنكر ومكان فعله وفاعليه، وإن كانت في الظاهر وسيلة سلبيَّة؛ إلا أنها ذات أثر عظيم يتمثَّل في الجوانب الآتية:

1- إشعار الواقعين في المنكر المقترفين له بخطأ ما هم عليه وخطره ومخالفته للشرع إشعارًا عمليًّا قويًا، وليس بمجرَّد القول باللسان، وهذا قد يدعوهم إلى ترك المنكر والتوبة منه.

2- تبليغ الناس كافَّة بأن هذا العمل منكر، وأن هؤلاء القوم الفاسقين مخطئون مخالفون للشرع متعدُّون لحدود الله.

وهذا نوع من البلاغ القوي الواضح الذي يميز للناس الحق من الباطل، والهوى من الضلال، وهو يدعو عموم الناس أيضًا إلى المشاركة في الإنكار عليهم، وتسفيه ما هم عليه.

3- حماية المؤمنين المبتعدين عن المنكر من آثار المنكر وأوضاره، إذ إن اعتيادهم على رؤية المنكر ومعايشته ومصاحبة أهله بجميع ألوان المصاحبة: من مؤاكلة، ومشاربة، ومجالسة، ومبايعة، وغيرها؛ دون جهد منهم في الإنكار عليهم، وبيان الحق لهم؛ يضعف من اليقظة الإيمانية في قلوبهم ضد الفواحش، وقد يتدرَّج الحال بهم إلى مواقعتها، أو - على الأقل - إلى إلفها وعدم إنكارها بالقلب، وهذه نهاية خطيرة، إذ إنها تعني زوال أضعف الإيمان من القلب، وماذا يبقى من الإيمان إذا زال أضعفه؟!

إن أمام أهل السنة والجماعة، وأمام الطائفة المنصورة بصورة خاصة، وأمام علماء هذه الطائفة وقادتها ورؤوسها: مسؤولية عظمى في العمل على: تغيير الواقع، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبذل الجهد لدفع الغربة عن هذا الدين وأهله؛ فإن الناس كلما بَعُد عهدهم بالسنن، ولم يجدوا من يجدِّدها في أذهانهم وواقعهم؛ استغربوها، واستنكروها، واستوحشوا منها، وكلما كثرت ملابستهم لضدها من المعاصي والبدع؛ ألفوها، واستمرؤوها، وتكيَّفت حياتهم معها.

فإشاعة السنن والشرائع الربانية عن طريق فعلها والحث عليها والترغيب فيها: هو الأمر بالمعروف، وهو دفع للغربة، وتجديد لأمر الدين في هذه الأمة.

وإماتة البدع والمعاصي عن طريق: هجرها وهجر أصحابها، والبعد عن مواطنها، والتحذير منها بكل وسيلة، والإنكار على أصحابها: هو النهي عن المنكر.

وبهذا وهذا تزول غربة السنن شيئًا فشيئًا، وتصبح المعاصي والبدع في مجتمع المسلمين هي المستغربة المستنكرة.

والمجتمع يتنازعه منهجان: منهج الحق، وهو المعروف، ومنهج الباطل، وهو المنكر، وهو للذي غلب عليه منهما.

 (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ والنَّاسِ أجْمَعينَ).

 

         أضف تعليق