المشرف العام
بحوث ودراسات
القيم الحضارية في شعيرة الوضوء
 
تمت الإضافة بتاريخ : 12/10/2011م
الموافق : 15/11/1432 ??

القيم الحضارية في شعيرة الوضوء

 

الكاتب: أ../ مسعود صبري

    اهتم العلماء– قديما وحديثا- ببيان الأحكام الشرعية، وفصَّلوا القول فيها بآلاف الكتب والبحوث والمقالات، وارتكز منهج كثير منهم على إيضاح خطاب الله تعالى للمكلفين بوصف حدية الأحكام، وهو منهج جيد في التدريس والتعليم، كما أنه مصدر غاية في الأهمية في الإفتاء، إلا أن تناول الأحكام الشرعية بطريقة مغايرة عن هذه الطريقة، لم يكن له نصيب وافر من اهتمام علماء الأمة؛ لطغيان مدرسة التدريس والتأليف.

   وفي مقابل هذا وجدنا مدرسة السلوك والأخلاق تهتم بالحث على الالتزام بتلك الأحكام، ولم يمزج بين المنهجين إلا في القليل النادر، والنادر لا حكم له كما يقول الفقهاء.

   غير أننا من الحكمة أن نعيد النظر في منهجية الرؤية للأحكام، أو نقوم بما يشبه إعادة القراءة من جديد، حتى نُخرج منها من الحكم والمقاصد والمصالح ما يتعدى حدود المعرفة والتزكية إلى آفاق أرحب وأوسع؛ لتسهم الأحكام الشرعية في بناء رؤية حضارية للأمة، وأن يكون لها إسهام كبير في إصلاح مجتمعاتنا الإسلامية، وخروجها من طور التبعية والتخلف إلى طور الإصلاح والتقدم؛ وذلك إيمانا بأن عوامل نهضة الأمة من خلال النظر في المقومات الدينية متداخلة متعاونة، بل إن تدقيق النظر إلى ما يظن أنه أصغر الأمور فيها ليجد توجيهات رشيدة للأمة تدفعها نحو البناء الحضاري، والمحافظة على القيم المجتمعية؛ لتقديم صورة نموذجية للمجتمع؛ مصداقا لقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)، فشهادة الأمة على غيرها من الأمم أن تقدم الأمة النموذج الأمثل حتى يقتدى بها.

ولعل الوقوف على بعض الأحكام الشرعية يبين هذا، سواء ما تعلق بالعبادات، أو المعاملات، أو الأحوال الشخصية، أو الأحكام السياسية وغيرها.

وسيجد القارئ أن الحكم الواحد قد تعددت أطره وحكمه في مجالات متعددة ربما لا يظهر هذا من أول وهلة، وإنما يظهر عند تدقيق النظر وتمحيص الفكر.

عبادة الوضوء:

ففي عبادة الوضوء نلمح عددا من القيم ذات الأهمية في بناء المجتمع الحضاري، ودفع أبنائه إلى الاستقامة في الحياة الاجتماعية، والتفاعل الإيجابي مع البيئة.

ومن أهم تلك القيم ما يلي:

قيمة المحافظة على الموارد الطبيعة وعدم الإسراف فيها:

فالإسلام يُحدث نوعا من الصحبة مع البيئة، ويبين للمسلم- بله الإنسان- كيفية التعامل مع البيئة المحيطة، وكيفية الإفادة منها، والتفاعل معها بشكل إيجابي، برؤية مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد، والانتفاع بمواردها على الوجه الصحيح، ودفع إلحاق الضرر بها، فمن خلال النصوص الواردة في الوضوء يجيء الحث النبوي على المحافظة على المياه وعدم الإسراف في استعمالها مهما كانت كثرة تلك المياه التي يمتلكها المجتمع، وذلك حين مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يتوضأ، يغرف في الماء في وضوئه، فقال: يا عبد الله، لا تسرف. فقال: يا نبي الله، وفي الوضوء إسراف؟ قال: نعم. وفي رواية لابن ماجة كرر الرسول صلى الله عليه وسلم النهي والتحذير فقال:"لا تسرف، لا تسرف".

   ولم يكن الصحابة عندهم "صنابير المياه" التي يتدفق منها الماء، ولا عندهم "دش" حمامات تنزل الماء بسرف، وإنما كانوا يتوضؤون من إناء يغرفون بأيديهم، وكم نتوقع ما ينزل من الماء حين يغرف أحدنا بيديه من إناء؟ إنما سماه النبي صلى الله عليه وسلم إسرافا مما رأى من أصحابه ، ليعد من أعلى وسائل المحافظة في عصرنا، بل نجد في إحدى الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على سعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ، فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سرف؟ قال: نعم، ولو كنت على نهر جار" أخرجه الإمام أحمد.وهذا الحديث نص وقاعدة في الحفاظ على الموارد الطبيعية التي يسرف الناس في استعمالها.

ومن عوامل المحافظة على الماء في الوضوء أن جعل الله تعالى الفرض أن يغسل الإنسان العضو مرة واحدة، ولكنه يسن أن يغسله مرتين أو ثلاثا، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، بل حكموا بكراهة الزيادة على الثلاث، وفي تعمد الزيادة على الثلاث حكم ببدعية الفعل.

 وإن أمة تحافظ على مياه نهر في وضوء تفعله لأجل طاعة الله تعالى؛ لحري بها أن تكون من أوائل الشعوب التي لا تهدر مواردها الطبيعية في غير ذلك من مصالحها الدنيوية، وإذا كانت الشعوب الآن تشتكي من أزمة في المياه، فإن منهج الإسلام في التعامل معها لهو خير وسيلة للحفاظ على المياه وغيرها من الموارد الطبيعية للبلاد.

وإذا أردنا أن نترجم هذا العدد بالإحصاء الحسابي، كم يحفظ الإسلام- بمنهجه- من بلايين الدولارات سنويا لو أن الناس اتبعوا تلك الخطة الرشيدة في الاقتصاد في الاستهلاك المائي وغيره من الموارد؟!

 الوقاية الصحية:

  تنفق غالب الدول ملايين الدولارات في الوقاية الصحية، ومواجهة الأمراض المنتشرة، خاصة تلك التي تنتشر بسبب السلوك الخاطئ مع الصحة، فكم جلبت الثقافة العشوائية في التعامل مع صحة الإنسان من أمراض، وكم كلفت الناس من أموال؟!

   إن الوضوء المنتظم خمس مرات يساعد على الحفاظ على الصحة العامة للإنسان، وتجنب أضرار التلوث الذي يصيبه جراء الجراثيم والبكتيريا وغيرهما، وقد نشر مقال في مجلة (سورس) التي تصدرها هيئة الأمم المتحدة من أن الاغتسال المنتظم والوضوء عند المسلمين ساهم في الحد من انتشار مرض (التراخوما) الذي يعد السبب الرئيسي في انتشار (العمى)، وأن هناك ما يقارب (500 مليون نسمة) مصابون بالمرض في أنحاء العالم كان يمكن تجنب المرض لو اتبعوا الطريقة الإسلامية في النظافة والوضوء.

ولا شك أن المقام يطول إذا بينا آثار الحفاظ على الصحة العامة من خلال شعيرة الوضوء، كحفظ الجسم من الميكروبات التي تدخل الأنف، ويمنعها الاستنشاق، وحفظ الجسد من الميكروبات التي قد تصيب الوجه أو اليدين، بل كما يؤكد أحد العلماء الأمريكيين أن للماء قوة سحرية على الجسد، بل إن رذاذ الماء على الوجه واليدين- يعني الوضوء- هو أفضل وسيلة للاسترخاء وإزالة التوتر.

وهذا ما يؤكده الدكتور أحمد شوقي إبراهيم عضو الجمعية الملكية بلندن من أن العلماء توصلوا إلى أن سقوط أشعة الضوء على الماء أثناء الوضوء يؤدي إلى انطلاق أيونات سالبة ويقلل الأيونات الموجبة؛ مما يؤدي إلى استرخاء الأعصاب والعضلات، ويتخلص الجسم من ارتفاع ضغط الدم وآلام العضلات وحالات القلق والأرق.

غير أن هذا يجعلنا نعيد النظر في فهم الأحاديث التي تحث على المحافظة على الوضوء بشكل دائم ولو لغير الصلاة، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحافظ على الطهور إلا مؤمن"؛ لأن من صفات المسلم أن يكون صحيح البدن. بل جاء التحذير من عدم المحافظة في الوضوء، وأن المحافظة عليه شعيرة الأنبياء، فقد ورد عن سالم بن يزيد بن بشر قال: "إن الله أوحى إلى موسى أن توضأ، فإن لم تفعل، فأصابتك مصيبة، فلا تلومن إلا نفسك". و المقصود هنا بالمصيبة التي تصيب البدن، وقد فسر العلم الحديث معنى ذلك.

إن الحفاظ على الصحة العامة من أهم ما يجب الاهتمام به في المجتمعات الإنسانية؛ لأن الإنسان إذا كان صحيح البدن، فهو قادر على العمل والإنجاز والتنمية، وأن هذا يخفف أعباء على ميزانية الدولة وما تتحمله من نفقات في مجال التأمين الصحي، وما ينفق من بلايين الدولارات في العالم على صحة الإنسان، وقديما قالوا: الوقاية خير من العلاج، وهذا منهج الإسلام في التعامل مع الصحة من خلال شعيرة الوضوء.

الراحة النفسية:

وإذا كان الأمر الأول يتعلق بالحفاظ على الموارد البيئية، والثاني يتعلق بالصحة، فإن من فوائد الوضوء ما يتعلق بالصحة النفسية، فإن المحافظة على الوضوء تساعد على التقليل من ضغوط التوتر والقلق والأرق كما أثبتت الدراسات ذلك، كما أن الوضوء يضفي على الإنسان نظافة وجمالا، مما يعطي راحة للبدن، وسكينة للنفس، واتزانا في تصرفات الإنسان، وكما أورد ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العبد إذا توضأ فغسل يديه خرجت خطاياه من يديه، وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه، وإذا غسل ذراعيه خرجت خطاياه من ذراعيه ورأسه، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه"، وقد أثبت العلم أن هناك علاقة بين ارتكاب الآثام والمعاصي وبين الاضطراب والقلق النفسي، وأن ما يضفيه الوضوء من حالة الاسترخاء والراحة النفسية هو تفسير لخروج الخطايا والذنوب، ولعل النص على موطن الخروج من اليدين والوجه والرأس والرجل ليبين بوضوح مدى تأثير الآثام، وتأثير الوضوء على الجسد، وكان ثمة فرق كبير بين تأثيرهما.

قيمة الجمال:

وإذا كان من الناس من يهتم بالجمال وينفق من أجله الأموال الطائلة، ويأخذ من وقته الكثير، فإن الوضوء مما يحافظ على جمال الإنسان مع الالتزام ببقية الهدي النبوي المتعلق بالصحة والجمال، ومن مزايا شعيرة الوضوء أنها تزيد الوجه جمالا وبهاء ونضرة، والجمال هنا ليس متعلقا بتغيير لون البشرة، فقد يكون الإنسان أسود اللون، لكنه جميل، وهذا من أحد المعاني التي قد يفهم من قوله تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح : 29]، بل إن عددا من الأطباء ينصحون للحفاظ على البشرة بتكرار الوضوء والمحافظة عليه خاصة لأصحاب الوجه الأقل دهنية، كما أن معنى الوضوء مشتق من الوضاءة وهي نضرة الوجه.

قيمة الاستعداد والتهيئة:

ومما يستفاد أيضا من شعيرة الوضوء أن يستعد الإنسان لعمله، وألا يقتحمه مباشرة، بل يهيئ نفسه له، ويجهز له العدة؛ حتى يستطيع أن يتقنه، وهو نوع من أنواع الإحسان، وقد جاءت الإشارة إلى هذا في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : 6]، فجعلت الآية الوضوء عند القيام للصلاة، والوضوء شرط من شروطها، فالمسلم يتهيأ للصلاة بالوضوء، فيتعلم أن يستعد لكل عمل يعمله، ويخطط له حتى يخرج بصورة حسنى.

التيسير والتعسير:

التيسير أحد معالم شعيرة الوضوء، وذلك أن من حكمة الله تعالى أن جعل الوضوء بالماء وهو أكثر الموارد حيوية وأهمية للإنسان، وكذلك أكثرها انتشارا، وسهولة في الحصول عليه، هو وسيلة الوضوء كما قال سبحانه: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال : 11]، فلو جعل الوضوء بغير الماء لكان فيه نوع من المشقة، كما أنه سبحانه أجاز الوضوء بالماء المالح كما أجازه بالماء العذب، فيجوز الوضوء بماء المطر، وماء الثلج، وماء البرد، وماء العين، وماء البحر، وماء النهر، وهذا ملمح من ملامح التيسير، ومنه أيضا أنه إن تعذر استعمال الماء لفقدانه أو عدم استطاعة استعماله لمرض أو عذر؛ قام التيمم بصعيد الأرض (التراب أو الرمل) مقامه، فإن لم يجد هذا ولا ذاك صلى صلاة فاقد الطهورين، يعني أن يصلي بغير وضوء أو تيمم.

فقه الأولويات:

من شعيرة الوضوء يتعلم المسلم فقه الأولويات، فهناك فرائض من النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجل، وترتيب تلك الأركان، فجعل أول مغسول من الفرائض الوجه، وهو أكرم الأعضاء الظاهرة، كما أنه يشمل عددا من الأعضاء الأخرى التي تدخل في السنن، كالفم والأنف، واستعمال الإنسان للوجه من الأعضاء الظاهرة أكثر من غيره، ثم يجيء بعده غسل اليدين إلى المرفقين، ثم مسح الرأس، ثم القدمين، وقد أوجب بعض الفقهاء كالشافعية وغيرهم أن يرتب الإنسان بين تلك الأركان، وهو ملمح من ملامح النظام، فيتعلم الإنسان النظام في حياته كما يتعلمه في وضوئه، ثم جعل مع الفرائض سننا، ورتب على كل منها أحكاما، فترك الفرض أو الركن لا يصح معه الوضوء بخلاف السنن، فيصح بتركها، وفرق الفقهاء بين ترك السنن عمدا وسهوا، مع صحة الوضوء على الراجح.

العبودية:

ورغم كل ما في الوضوء من المعاني والأسرار والحكم التي يستفاد منها في الحياة الاجتماعية، والبيئة، والحياة النفسية، والصحة الوقائية، والتنظيم والترتيب والأولوية، فإن الوضوء أيضا فيه تسليم لأمر الله تعالى، وإذاعن له سبحانه بطاعته كما أمر، ولو كان الأمر جائزا في البحث عن الحكم والمقاصد من التشريع وكيفيته، بل الأمر كما قال سبحانه: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب : 36]، ومع هذا التسليم المطلق لله تعالى، فإن كل ما في الشريعة قائم على تحقيق مصالح العباد، فمن جانب العباد يجب التسليم لله، وعلى الجانب الآخر، فإن الله قابل هذا بأن جعل في التشريع مصلحة للعباد، وذلك بما أثبت العلم الحديث ما للوضوء من فوائد متعددة.

ومن هنا يتبين لنا أنه من المهم للمسلم أن يحافظ على الوضوء، وهذه المحافظة لا تتعلق بالصلاة وحدها، بل المحافظة على الوضوء دائما من علامات الإيمان، كما للوضوء من فوائد عملية متنوعة.

_____________________________

موقع هدي الاسلام

 

fiogf49gjkf0d
fiogf49gjkf0d
         أضف تعليق