المشرف العام
مقالات
سباق نحو المكارم!
 
تمت الإضافة بتاريخ : 16/02/2022م
الموافق : 14/07/1443 ??

سباق نحو المكارم!

احمد عبدالمحسن العساف

أمر النّبي عليه الصّلاة والسّلام صحابته في معركة بدر ألّا يقتلوا أبا البختري بن هشام إذا ظفروا به، وحين رأى الأسرى قال: “لو كان مطعم بن عدي حيًا، ثمّ استشفعني في هؤلاء النّتنى لشفّعته فيهم”، وهذان الرّجلان ممن نقض صحيفة الجور، ولم يؤذيا المسلمين، بل وأجاروهم، والمعروف لا يضيع ولو بعد أمد طويل.

 

وفي تاريخ العرب القديم والحديث قصص عن مكارم الأخلاق، ومنها بذل المعروف، والوفاء، وحفظ الجميل، وهي شيم عربيّة راسخة، جاء الإسلام ليزيدها كمالًا وجمالًا، وينقلها من الجبلّة والفخر إلى رحاب العبوديّة، ويدعو النّاس إليها كافة من عرب وعجم.

 

وهذه واقعة نبيلة، حدثت قبل أزيد من مئة وعشرين عامًا، حين سافر فريح الشّمري من حائل إلى الكويت؛ لشراء بضائع له أو للأمير حمود بن عبيد بن رشيد، فماتت راحلته في حال عصيبة، حيث لا صاحب له، ولا مال معه، وهو غريب عن الكويت وأهلها، وظلّ حائرًا يترقب انبلاج فجر معه الفرج.

 

وخلال انتظار فريح عند صفاة الإبل، لمحه رجل مفطور على الطّيب، بصير بذوي الحاجات الذين يأنفون من السّؤال، فاستخبره عن نفسه، وأصرّ عليه حتى قصّ الحائلي حكايته، فاستضافه الكويتي في منزله، وأكرمه على عادة العرب، ثمّ اشترى له بعيرًا وجهزه كي يستطيع العودة إلى أهله بسلامة وسرعة.

 

وعقب وصوله إلى حائل، أشاد فريح بموقف ماضي بن ماضي العازمي، فمن مزايا أهل الفضل اعترافهم بحسنات الآخرين؛ فليس يضيرهم ذلك شيئًا، مع ما فيه من إنصاف، وإبقاء للمعروف. وطرق اسم هذا الرّجل العازمي الكريم مسامع الأمير عبدالعزيز بن متعب بن رشيد، والأمير حمود بن عبيد بن رشيد، وأكبرا صنيعه ولم يستغرباه، فالعربي يطرب للمعالي، ويقدّر أربابها.

 

وبعد انتصار ابن رشيد السّاحق على الشّيخ مبارك الصّباح في معركة الصّريف عام 1318، وقع عدد كبير من جيش الكويت في الأسر، فأمر ابن رشيد سيّافه بفصل رؤوسهم عن أجسادهم، واستكثر عليهم طلقات الرّصاص لغلاء سعرها وندرتها، وكان فريح من ضمن جيش حائل، وفجأة لمح مع أسرى جيش الكويت صاحبه، فاجتمع الحاضر مع الماضي بين فريح وماضي!

 

ولم يتوان الشّمري فاستمهل السّياف، وعدا مسرعًا لأميره؛ طالبًا منه إصدار العفو عن أسيره صاحب البعير، ولم يرفض ابن رشيد طلب جنديّه الوفي، فقفل يحمل البشرى لماضي بالنّجاة من لمعان السّيف وحدّته، وبعد أن ضمن ماضي حياته قال لصاحبه: لا أبرح حتى يشمل العفو بقيّة رفاقي! وحقّ لمثله أن يحسن لذويه، ويطمع في شهامة شمر المعروفة.

 

ولم يتردّد فريح؛ حيث رجع لأميره راويًا ما جرى، فقال ابن رشيد: هذا الرّجل قد غمرته الفضائل، وعمرت نفسه بأطيب الأخلاق، ولا عجب أن يطلب العفو لمن معه، وقد أجبت طلبه إكرامًا له ولك، مع أنّ الأمير الجنازة مشهور ببأسه الشّديد، وقوّة بطشه، إلّا أنّ أصالة معدنه، وحرصه على استبقاء المواقف الخالدة، جعلاه يستعلي على غضبه، ويطفئ عفوه نيران صدره، ولم يرضخ لشهوة الانتقام بعد الظّفر، وهي شهوة تنشب أظفارها بالمنتصر.

 

وعاد الشّاعر الفارس ماضي إلى بلاده، بعد أن استنقذ قومه، وسطّر حدثًا باقيًا في عالم المروءة، والفعال الحميدة، ويروى أنّ الله امتن  عليه بمال وفير، وطول عمر، وختم أيّامه بانصراف نحو ربّه والدّار الآخرة، مستكثرًا من الباقيات الصّالحات، وحاز مع صاحبه تخليد ذكرهما بثناء عطر بالّلسان والقلم؛ لتسابقهما إلى أحسن قول وفعل.

 

إنّ الحياة تغدو أنيسة هانئة بالوفاء، وتصبح وحيشة كئيبة بالغدر، وكم هو عظيم خلق الوفاء، وحسن العهد، فبهما تنهض المروءة، وتزداد الفضائل، وكم هو خسيس خلق الغدر والخيانة، حتى إنّ صاحبه ليفضح بلوائه يوم القيامة من بين سائر العصاة.

 

         أضف تعليق