buy antidepressants buy antidepressants read here buy antidepressant الحرية في الإسلام
جابر قميحة
جاء الإسلام ليرفع من كرامة الإنسان ـ من حيث هو إنسان ـ فكرمه بالعقل وكفل له الرزق والطيبات، وحقق له أفضلية على كثير من المخلوقات، يقول تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).
ووضع الإسلام الأسس التي تكفل التخلص من نظام الرق، وأبطل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، فلا عبودية إلا لله الفرد الصمد (...وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ...) وأعلن أن الناس سواسية لا يتفاضلون إلا بالتقوى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) .. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) . وفي كل أولئك تقرير لوحدة الأصل مما يقتضي عدم التمايز بالجنس أو الطبقة.
والذين يعيرون الإسلام ظلمًا وعدوانًا بأنه شرع أو أقر الرق أعجزهم العثور على آية واحدة أو حديث واحد يدعو إلى الرق، ونسوا أنه عند ظهور الإسلام كان الرق هو القاعدة الركينة التي يعتمد عليها النظام الاقتصادي العالمي اعتمادًا يكاد يكون كليًا، "فنرى أرسطو طاليس ـ كغيره من الإغريق ـ يؤيد الاسترقاق ويحبذه، فليس الناس لديه سواسية في الحقوق والواجبات، بل هم متمايزون، وينبغي في نظره أن يكون في البلد أحرار وعبيد، وهؤلاء العبيد غير جديرين بالمساهمة في إدارة الحكم، وفي انتخاب من يلي الأمر؛ لأنهم بطبيعتهم كالحيوانات. مهمتهم خدمة الأحرار يزرعون و يحصدون، ويعملون لمن يملكونهم، وليس لهم أي حق من حقوق المواطنين.
فلو أن الإسلام حرم الرق طفرة بقرار سريع حاسم ـ وهو الدين العالمي الخالد الذي جعل التدرج أهم صفاته التشريعية ـ لاهتز كيان الاقتصاد العالمي، بل لانهار بناؤه "فجملة التعاليم التي بين أيدينا من الكتاب والسنة تشهد بأن الإسلام عند ظهوره وجد منابع الرق كثيرة، ومصارفه قليلة أو معدومة، فكثَّـر المصارف، ونظمها ووسعها، وردم المنابع، أو وضع لها من الوصايا ما يجعلها تجف من تلقاء نفسها".
مصطلح قرآني..
والذين ينظرون في آيات القرآن الكريم لابد أن يلفت بصيرتهم أن المصطلح القرآني الذي تناول الرقيق هو مصطلح الرقبة ـ وليس العبد ـ وأن هذا المصطلح مقترن دائمًا في القرآن بالتحرير (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) .. (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) .. (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) .. (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ . فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ).
وبالإضافة إلى إلغاء أغلب روافد "نهر الرقيق" وتوسيع مصابِّه شرع الإسلام للأرقاء حقوقًا، ورفع عن كاهلهم التكليف بما لا يطيقون حتى لقد أوشك أن يساويهم بسادتهم كل المساواة ,الأمر الذي جعل تحرير رقبة إسلامية لا يمثل خسارة مادية ذات بال، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "للمملوك طعامه وكسوته، ولا تكلفونه من العمل ما لا يطيق" . بل لقد ذهب إلى حد التشريع لإلغاء كلمة "عبد" و "أمة" من مصطلحات الحياة الاجتماعية، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا يقل أحدكم عبدي وأَمَـتِي، وليقل فتاي وفتاتي".
كذلك جعل الإسلام من المكاتبة ـ أي شراء الرقيق لحريته شراء منجمًا ميسورًا يعينه عليه مالكه ـ ومن زواج المالك بفتاته ـ أي أمته إذا هي أنجبت منه وصارت أم ولد جعل من ذلك وغيره مصابَّ جديدة لتحرير الأرقاء".
ولنوازن هذا بما ذهب إليه أرسطو إذ يقول: إن من الخير للعبد نفسه أن يبقى رقيقًا, حيث وضعه الله، أو وضعته الطبيعة ليخدم الوطن كما يخدمه الحيوان الأعجم سواء بسواء.
حرية شاملة منضبطة
فالإسلام إذن ـ من منطلق "تكريم بني آدم" عمل على تحرير الإنسان من الرق، ليس هذا فحسب، بل كان أول نظام يمنح الإنسان ـ بصرف النظر عن جنسه ولونه ومعتقده ـ ما يمكن أن نسميه "الحرية الشاملة" . ولا يعني هذا الحرية المنطلقة المتسيبة بلا ضوابط ولا قيود فتلك هي الفوضوية بعينها .. الفوضوية التي تقود الفرد إلى الضياع وفساد الدين، وتؤدي بالمجتمع إلى الخراب والانهيار. ولكن المقصود بالحرية الشاملة تلك التي تتناول كل جوانب الحياة، وتمكن الإنسان من العيش والمعايشة بإرادته دون أن يكون مقهورًا أو مظلومًا، أو واقعًا تحت ضغط غير مشروع، أو هي كما عرفها أحد المفكرين المحدثين "الانطلاق المشروع في الرأي والاعتقاد وفي القول وفي الفعل، وفي الاتصال بالغير".
وقد كفل الإسلام للإنسان حرية التفكير. وحرر العقل الإنساني من الأوهام والخرافات والوقوع في أسر التقليد الأعمى. ومن حق الإنسان أن يتمتع بهذا النوع من الحرية: فقد خلقه الله من مادة "الطين" , ونفخ فيه من "روحه" , وكرمه "بالعقل" الذي وعى حقيقة الأشياء اسمًا ومسمى.. والعقل هو الذي كفل له أن يكون خليفة الله في أرضه (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) [سورة البقرة].
ولقد كرم الله الإنسان ـ بالحواس ـ لا لذاتها ـ ولكن بقدر ما توصل صاحبها إلى طريق الفهم والاهتداء والتقوى والصلاح: (.. ألم نجعل له عينين ولسانًا وشفتين وهديناه النجدين) [سورة البلد]. وإذا لم تستطع الحواس أن ترتفع بالحقيقة الإنسانية في نفس الإنسان، وتكون وسائل لتحصيل العلم والوصول إلى اليقين والهدى، والتحرر من ربقة الظلم، فوجودها كعدمها سواء، بل إن الإنسان في هذه الحالة يكون أحط مكانة من البهائم؛ لأن البهائم تستخدم حواسها بأقصى طاقاتها حفاظًا على بقائها، أما هو فقد عطل حواسه التي أنعم الله بها عليه لاستعمالها كصاحب رسالة كرمه الله باستخلافه عنه في الأرض، وما قيمة العقل إذا ما عطلت طاقته عن الخير؟ وما قيمة العين إذا لم تبصر طريق الهدى؟ وما قيمة الأذن إذا لم تصغ لصوت الحق واليقين؟ (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)) [سورة الأعراف].
مفهوم شامل للعقل..
والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه.
وبهذا المفهوم الشامل للعقل، تحريرًا له من الجمود والتوقف والتخلف عن التفاعل الحي مع ما يرى من مظاهر الكون والحياة، دعا الإسلام إلى النظر والتفكير والتأمل، ونعى على الذين لا يفكرون، ولا يتأملون خلق الله، ولا يعملون عقولهم خلوصًا إلى اليقين (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)) [سورة الذاريات].. (مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة الروم: 8].
وفي عشرات من الآيات القرآنية، بل مئات منها تتكرر كلمة "العقل" وما ارتبط بها من ألفاظ "الفقه" و"العلم" و"التفكير" على النحو الآتي:
أ ـ "عقل" ومشتقاتها (عقلوه ـ تعقلون ـ تعقل .. الخ) ذكرت 48 مرة.
ب ـ "علم" ومشتقاتها (علم ـ يعلم ـ يعلمون .. الخ) ذكرت 866 مرة.
جـ ـ "فقه" ومشتقاتها (تفقهون ـ تفقه ـ يفقهوا ـ يفقهوه .. الخ) ذكرت 20 مرة.
د ـ "فكر" ومشتقاتها (فكر ـ تتفكروا ـ يتفكرون ... الخ) ذكرت 87 مرة.
هـ ـ "وعي" ومشتقاتها (تعيها ـ أوعى ـ واعية ... الخ) ذكرت 4 مرات.
ومجموع هذه المواد التي ذكرتها 1043 (ثلاث وأربعون وألف) لفظة، وكلها تدور على تقدير القرآن للعقل والنظر والتفكير. وهذه المواد التي عرضنا لها هي المواد المباشرة، وهناك مئات من الألفاظ تدور حول العقل والتفكير بطريقة غير مباشرة لم نعرض لها.
والإسلام يقرر للإنسان أن يفكر فيما شاء كما يشاء وهو آمن من التعرض للعقاب على هذا التفكير، ولو فكر في إتيان أعمال تحرمها الشريعة، والعلة في ذلك أن الشريعة لا تعاقب الإنسان على أحاديث نفسه، ولا تؤاخذه على ما يفكر فيه من قول أو فعل محرم، وإنما تؤاخذه على ما أتاه من قول أو فعل محرم، وذلك معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تتكلم".
التدرج في التفكر..
وقد تدرج القرآن الكريم في تدريب الناس على التفكر في مراحل متعاقبة:
فالطريق الأول: إعمال الفكر بالنسبة للمحسوسات والمرئيات.
والطريق الثاني: يخاطب فيه القرآن الناس لإقناعهم عن طريق الأسباب والمسببات.
والطريق الثالث: وهو طريق الاتجاه الرفيع بعد أن يكون العقل قد تدرج في التفكير حتى وصل إلى هذه المرتبة، وفي ذلك يقول تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 21].
كما أن هناك طرائق أخرى للفكر تجمعها جميعًا آية واحدة هي قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت: 53].
هذه هي حرية الفكر والتفكير في الإسلام، ربطها الله سبحانه وتعالى بوجود الإنسان ذاته، ودعاه القرآن إلى استعمال حقه في التفكير والتأمل مستخدمًا طاقاته العقلية دون أن يعطلها بالتقليد الأعمى، أو يهدرها فيما لا ينفع ولا يفيد، وكذلك كفل الإسلام للإنسان حرية الاعتقاد، وكان من قواعد الإسلام الراسخة قاعدة "لا إكراه في الدين" و "لكم دينكم ولي ديني" أما الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما عليه إلا البلاغ، وسبيل هذا البلاغ هو الحكمة والموعظة الحسنة (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)) [سورة فصلت].
بل إن الإسلام ليأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكل مسلم ألا يغلق بابه في وجه مشرك استجار به، بل عليه أن يجيره ويحميه ولا يتخلى عنه إلى أن يبلغ بر الطمأنينة والأمان (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) [فصلت: 6].
وقد كانت عهود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه للذميين دليلاً قاطعًا على كفالة الحرية الشاملة لهم وخصوصًا حرية الاعتقاد، كما نرى في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنصارى نجران: ذلك العهد الذي أكده ووثقه خلفاؤه الأربعة، فنرى في عهد أبي بكر لهم ينص العهد على أنه "أجارهم بجوار الله وذمة محمد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أنفسهم وأرضهم وثلتهم ـ أي جماعتهم ـ وأموالهم وحاشيتهم، وعبادتهم وغائبهم، وشاهدهم، وأساقفتهم ورهبانهم وبيعهم ...".
التاريخ يتكلم..
وحينما فتح المسلمون إيلياء (القدس) كتب عمر ـ رضي الله عنه ـ كتابًا سنة 15 هـ نص فيه على أنه ".. أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود..".
وعقد الأمان أو عقد الذمة يوجب على المسلمين حماية الذميين من العدوان الخارجي، ومن الظلم الداخلي، وحماية أموالهم، وتأمينهم عند العجز والشيخوخة والفقر، وكفالة حرية التدين والاعتقاد والعمل والكسب.
يقول ابن حزم في كتابه "مراتب الإجماع": من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صونًا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن المواقف التطبيقية لهذا المبدأ الإسلامي موقف شيخ الإسلام "ابن تيمية" حينما تغلب التتار على الشام، وذهب الشيخ المسلم ليكلم "قطلوشاه" في إطلاق الأسرى، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، وأبى أن يسمح له بإطلاق أسرى أهل الذمة، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: "لا نرضى إلا بافتتاك (إطلاق) جميع الأسارى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيرًا لا من أهل الذمة، ولا من أهل الملة" . فلما رأى إصراره وتشدده أطلقهم له.
فاختلاف العقيدة لم يمنع المسلمين من رعايتهم للذميين والوفاء بعهودهم معهم، وحمايتهم مما يحمون منه أنفسهم، حتى عاش الذميون يتمتعون بالعدل والحرية شأنهم شأن المسلمين، بل كان لبعضهم في بعض العهود مراكز ومناصب ونفوذ وثروات تفوق ما كان عليه كثير من المسلمين، مما لا يتسع المقام لشرحه، وضرب الأمثلة له.
حقائق ناصعة
ولكن قد يتلجلج في الخاطر تساؤل مؤداه: إذا كان الإسلام يدعو إلى حرية الاعتقاد، ويحيطها بكل هذه الضمانات، فلماذا لا يترك للمسلم حرية الارتداد عن دينه، واعتناق دين آخر , بل يعاقبه الإسلام بالقتل؟ أليس في هذا نوع من الإكراه للإنسان على البقاء على الإسلام الذي جاء بقاعدة "لا إكراه في الدين" ؟؟ . ولكن هذا الخاطر أو هذه الشبهة سرعان ما تنمحي إذا وضعنا نصب عيوننا الحقائق الآتية:
1 ـ الإسلام هو أكمل الأديان وأوفاها وأشملها، وأكثرها رعاية لحقوق الإنسان وكرامته، فنكوص المسلم عن الإسلام يعد إهدارًا لعقله وشخصيته بترك الفاضل إلى المفضول.
2 ـ لم يجبر الإسلام أحدًا على اعتناقه، إنما كان أساس دعوته إلى الناس يتمثل في الحكمة والموعظة الحسنة، وقد نص القرآن ـ كما رأينا ـ على أنه لا إكراه في الدين، وترك المسلمون النصارى واليهود والمجوس في بلاد الشام والعراق، ومصر على دينهم، ولم يفرضوا الإسلام على أحد منهم.
3 ـ اعتناق الشخص للإسلام يعني "التزامًا جادًا" بقواعد هذا الدين، ما دام قد اختاره بمحض إرادته، وتعتبر الردة في هذه الحال "خيانة عظمى" و "إخلالاً خسيسًا" بهذا الالتزام.
4 ـ والإسلام ليس بدعًا في هذا، فالمسيحية هي الأخرى تهدر دم المرتد عنها، وكذلك تفعل الأديان الأخرى.
5 ـ والإسلام لا يقتل المرتد حال ارتداده، وإنما يعطيه أمدًا يحاسب فيه نفسه، ويستتاب فيه، فإن لم يتب ويثُب إلى صوابه قتل.
ولا قيمة لحرية الفكر وحرية الاعتقاد والتدين ما لم يكن هناك حرية التعبير، فالفكر والاعتقاد من الأمور الخفية، والتعبير عنهما هو المظهر العملي التطبيقي للحرية في لونيها السابقين، وقد رفع الإسلام "الكلمة البانية" مقامًا عليًا، وسماها الكلمة الطيبة، وهي تلك الكلمة الفاعلة الهادية التي تحمل العلم والحق والفضيلة والخير للناس (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [سورة إبراهيم: 24 ـ 25].
كما ذم القرآن "الكلمة الخبيثة" التي تكُب الناس في النار على وجوههم، كما يقول الحديث النبوي الشريف. إنها الكلمة التي تؤدي إلى تخريب الفرد وتدمير المجتمع (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [سورة إبراهيم: 26].
وتنطلق الكلمة الحرة لا يقيدها إلا ضوابط الخلق والنظام، وهي ـ في الواقع ـ ليست "قيودًا أو موانع، بل هي "معايير وضوابط" والمسلم مطالب ـ على سبيل الإلزام ـ أن يواجه الباطل والمنكر باللسان إن عجز عن المواجهة والتغيير باليد، فإذا ما قادته هذه المجابهة إلى الموت فهي الشهادة، بل أعلى مراتب الشهادة وأكرمها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أكرم الشهداء على الله رجل قام إلى وال جائر، فأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر فقتله". |