fiogf49gjkf0d
بركة التوكل على الله
عبدالحليم البر
يقول الأستاذ عباس السيسي في كتاب : مواقف
في الدعوة والتربية حين حصلت على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية فى عام 1939 توجهت
إلى القاهرة لأبحث عن عمل، والتقيت بفضيلة المرشد العام رحمه الله فى دار المركز العام
بالحلمية الجديدة، وبعد أن رحب بى فضيلته سألنى عن سبب حضورى للقاهرة
قلت : لأبحث عن عمل
قال : ألم تفكر فى التطوع لمدرسة الصناعات
الميكانيكية الحربية؟
قلت : إن خريجى المداس الصناعية معفون من
خدمة الجيش !!
قال : لكن رسالتنا توجب علينا الخدمة فى
هذا الميدان
قالت : لا مانع، ولكن سوف لا أنجح فى الكشف
الطبى حيث أن إحدى عينى عليها سحابة مزمنة
قال : توكل على الله وأنت تنجح
قلت : كيف أنجح فى الكشف الطبى وعينى على
هذه الصورة؟
قال : من أجل هذا قلت لك توكل على الله
لأنه لو كانت عينك سليمة كنت ستتوكل على عينك
فهزنى هذا المعنى هزا عنيفا وتذوقت له طعما
إيمانيا جديدا. وتوجهت إلى مدرسة الصناعات الحربية بالعباسية متوكلا على الله، واصطحبنا
أحد الضباط مع بعض الزملاء إلى المستشفى العسكرى وكلى ثقة وأمل فى النجاح , وبعد الكشف الطبى الكامل كنت ضمن من نجح فى الكشف
الطبى. والتحقت بالمدرسة وأخذت حياتى مساراً جديداً لم يكن فى الحسبان
ولا أنسى أنه حين قامت الحرب العالمية الثانية
استعجلت وزارة الحربية تخرجنا لنذهب إلى الميدان فى الصحراء الغربية. وكان (ضرب النار)
من مواد الامتحان، وذهبت مع زملائى البالغ عددهم حوالى المائة طالب إلى ساحة (ضرب النار)
وأنا شديد الأسى والألم حيث أخشى أن أرسب فى هذا الامتحان بالنسبة لضعف عينى اليمنى،ولكنى
سرعان ما تذكرت كلمة الإمام (توكل على الله وأنت تنجح) , وفعلا أشربت روحى هذه العقيدة
واستيقنتها، وتوجهت إلى تبة (ضرب النار) بكل ثقة واطمئنان واستعملت عينى الأخرى وفى
النهاية وقف (الصاغ) حسين أحمد قائد التبة ليعلن : أن الفائز الأول هو عباس السيسى
وكانت مفاجأة مذهلة للذين يعرفون الحقيقة.. ولكنها كانت من حقائق صدق التوكيل على الله
تعالى وظلت (توكل على الله) :
حقيقة مشفوعة بهذه الأحداث فى حياتى، عقيدة
ثابتة تلازمنى فى كل المواقف الصعبة التى مرت بى , أتذكرها بعمق وثقة , وتعطينى الأمل
والاطمئنان والصبر والثبات
هذا ولقد فهمنا من حسن البنا :
حقيقة التوكل بنفس فهم المسلمين الأوائل
على أنه بذل الجهد فى حدود الطاقة البشرية، ثم ترك التدبير إلى من بيده التدبير.. لقد
كان هذا الفهم مفتاح كل خير وبركة ووقاية من كل شر
وعلى هذا الفهم :
قامت تربية المرشد العام، فالتوكل من لوازم
كمال الإيمان.. ذلك أن الإنسان المؤمن هو الإنسان الوفى بواجبات خلقته وعبوديته لله،
وهو الإنسان التقى المنصاع دائماً لأمر خالقه فى كل شأن من شئون الحياة النازل عند
حكم الله فى كل قضية وموضوع.. وصفة التقوى فى الأخ المسلم لم تكن تتوفر إلا بالتربية
والتعهد الدائبين المتوافقين مع أصول الإسلام وأحكامه حتى تتحق ولادة الفئة المؤمنة
الممتثلة لأمر الله، المستعدة للجهاد فى سبيله، المتحرية لسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - التى لا يضرها من خالفها حتى
يأتى أمر الله
fiogf49gjkf0dpan style="font-size:16.0pt;line-height:115%;font-family:"Arial","sans-serif";
mso-ascii-font-family:Calibri;mso-ascii-theme-font:minor-latin;mso-hansi-font-family:
Calibri;mso-hansi-theme-font:minor-latin" lang="AR-SA">على هذا الفهم :
اندفع الإخوان المسلمون يجاهدون لإعلاء
كلمة الله بعزيمة وإصرار لا يلوون على شىء ولا يلتفتون إلى إغراء (الذين قال لهم الناس
إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل )، فقد
بصرهم إمامهم بحقيقة التوكل فى شريعة الإسلام، على أنه إدراك للمسئولية والواجب وعمل
جاد مخلص يحمله أمناء بررة، ثم هم بعد ذلك يفوضون الأمر إلى الله، يرضون بقدره واختياره
على هذا الفهم الصحيح :
اندفع الإخوان كما اندفع المسلمون الأوائل،
الذين لم يعللوا أنفسهم بالأمانى ولم ينتظروا أن ينصرهم الله بطريقة سحرية غامضة الأسباب!
فظهر منهم من روائع الأعمال، من صبر عند الشدائد،
وصدق عند اللقاء، وبذل وتضحية عندما تتطلب أمور المسلمين البذل والتضحية، وسعى دائب
فى طلب المعاش ثم الرزق بعد ذلك بيد الله لا بيد أحد سواه، وضرب فى الأرض يفتحون البلدان
ويعمرونها، ويزبحون عن الطريق أعداء الله وأعداء الإنسان، وكان العمل الدائب المستمر
على أساس من الكفاية التامة فى كل ناحية من نواحى الحياة – اقتصادية وسياسية واجتماعية
– فأرغموا العالم على أن ينحو نحوا جديدا ويتخذ مسيرا على منهج الله لا مكان فيه للأهواء
والأغراض والعصبيات ولا مجال فيه للأثرة والأنانية، ذلك هو العهد الإسلامى الذى لا
يزال غرة فى جبين التاريخ
لقد علمنا – رضى الله عنه – :
أن مدلول التوكل لابد أن يقوم على فهم عميق
لهذا الدين، وأن الله سبحانه وتعالى يساعد من يجاهد للهدى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم
سبلنا) ، وأنه يغير حال الناس حين يغيرون ما بأنفسهم، وأنه لا يغير ما بهم حتى يغيروا
ما بأنفسهم : (أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فهناك علاقة لا تنفك
بين الجهد البشرى الذى يبذله الناس، وعون الله ومدده الذى يسعفهم به، فيبلغون به ما
يجاهدون فيه من الخير والهدى والصلاح والفلاح.
فإرادة الله هى الفاعلة فى النهاية، وبدونها
لا يبلغ ((الإنسان)) بذاته شيئا، ولكن هذه الإرادة تعين من يعرف طريقها، ويستمد عونها،
ويجاهد فى الله ليبلغ رضاه
وقد ارتبط هذا الفهم للتوكل :
ارتباطا وثيقا بقوة الدولة الإسلامية الأولى
وتبوئها مكان الصدارة بالنسبة لدول الأرض وشعوبها، فكانت خير أمة أخرجت للناس كما ارتبط
انحطاط الدولة الإسلامية وبلوغها تلك الدرجة من التخلف فى شتى الميادين بالتواكل وفقدان
الوعى بفقدان إدراك طبيعة هذا الدين واعتماده على كواهل البشر وطاقاتهم من أجل إقامته
والتمكين له، فخضعت الشعوب الإسلامية إلى من ليسوا من أبنائها واستجابت لكل دعوة ليست
من دينها وسكنت عن كل نيل من كرامتها، وتحملت كل ضيم ورضيت بكل هوان واستوى عندها الناصح
والغاش، فسهل قيادها إلى حتفها وهلاكها، وهى راكنة إلى الذين ظلموا، مستسلمة إلى الذين
خانوها،مكتفية بأن تلك أقدار مقدرة وهى لا تعلم بأن ذلتها من كسبها وتواكلها، وأن ضعفها
يرجع إلى ركونها إلى غيرها، وأن تخليها عن قيادة البشرية يرجع إلى عدم فهمها لحقيقة
هذا الدين ورفضه الذلة والهوان لأبنائه مهما كانت قلة عددهم وضعف عدتهم
ولقد كان تحول حياة المسلمين من العمل المخلص
الجاد والتوكل على الله إلى الدعة والتواكل والاستسلام إلى المقادير، هو السبب فى تحول
القيادة عن الأمة المسلمة إلى غيرها، وأصابتها بعوامل الضعف التى منيت بها وانقلب عندهم
ما كان واجباً من الدين من علم يتبعه عمل، محظوراً فيه
وما على المسلمين إذا أرادوا أن يضعوا أيديهم
على بداية الطريق إلا أن يعتصموا بدين الله، واضعين نصب أعينهم ما أمرهم الله به من
كتابه وسنة نبيه، فينهضوا كما سبق لاسلافهم أن ينهضوا، فيستردوا مفقودا، ويحفظوا موجودا،
وينالوا عند الله مقاما محمودا، مع وعد من الله قاطع بنصرهم، والتمكين لهم أخذه على
نفسه فى قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما
استخلف الذين من قبلهم وليمكن لهم دينهم الذى ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا
يعبدوننى لا يشركون بى شيئا) ( )
|